sekrinya
مـا تـبـ 1602;ـى
مـا تـبـقـى
رأيت فيما رأيت ذات يوم ,
ويدي تتحسس برودة في الأوصال العـطلـى ,
وجهاً يَهل من شاشة تلفازنا المسمى وطنيا بالشعار ,
بهي الطلعة مزركش الألوان ,
تزينه بشاشة امرأة شبه عارية من جهة الرقبة إلى الصدر ,
شتان بين عري الربيع المطل فجأة , و عري الخريف المتهادي أمامي صباح مساء ,
كأي إنسان تحركت بداخلي , رغبة التلصص في بعض التفاصيل ,
لا أذكر من قال إن اشتهاء الأنثى في الحرام حرام ,
أظنه كان فقيها يعلن غير ما يسر ,
ويأبى شيطان المقارنة إلا أن ينغص علي لذة الاختلاء بالصورة المتحركة ,
تتعمد أن تكسر اتصال عيني بفتنة المذيعة ,
- *عصام* تأخر ,
تشير علي بيدها اليمنى ,
- أينك ؟
اخترقت مآقيها الذابلة ,
مثلي أضاعت ثلثي عمرها في الانتظار ,
غاب جسدها النحيف في عمق قتامة مدخل المطبخ ,
تزداد نصاعة شاشة التلفاز ,
لم تكن أوضح كما هي عليه اليوم ,
استغربت من غياب أي تجعيد ولو بالثني في حركة أو كلام ,
عيناها محارتان تغيب فيهما نقطتا بياض خلف دائرة شهباء ,
فوقهما حاجبان رقا , حتى لان سوادهما كأخدود في أفق السماء ساعة الغروب ,
تلقي إليك بنظرة تخطف البصر ,
يتحرك الراكد المسكوت عنه في حوارات الليل بين ضرورات اليومي في الحاضر ,
و حاجات الظرفي في المستقبل ,
كلما فكرت في اختبار إمكانية عودة النفس إلى النفس ,
كلما كانت لي بالمرصاد , تفت عضدي عن غير قصد ,
تذكرني باستمرار بالأزمة التي انتهينا إليها ,
تكثر من اللولوات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ,
لو أنك لم تدخل السجن,
لو أنك اخترت طريقا آخر ,
لماذا لا تقولين ,
لو أنك بعت كل شيء ,
ثم أعمد إلى الاعتذار لها عن طيش الشباب الذي تأخر بي , فلم يبارحني إلا ملوما محسورا ,
أعرف أنها أقل احتمالا مني لقهر هذا الزمن الخبيث ,
أقرأ في عينيها انتكاسة الأحلام المنكسرة ,
صمتها أحد , لا تلطفه سوى هذه اللعينة الماردة ,
كثيرا ما سألت نفسي عما تكون عليه حالها وهي مستلقاة ,
على ظهرها حينا أو على بطنها حينا آخر ؟
تملأ الفراش من الزاوية إلى الزاوية , بالكاد تستيقظ للاستواء كي تفسح لي مكانا للنوم ,
قالت بأنها تفضل استباقي إلى النعاس مخافة إزعاجها بشخيري الذي يدوي في الأركان ,
- تأخر *عصام* ,
ألن تخرج للبحث عنه؟
كل يوم يزداد يقيني بأن حواء هي التي أخرجت آدم من الجنة ,
- لعله يلعب مع أولاد الدرب ,
- في مثل هذا الجو الغاضب ؟
وانقطع صوتها متدرجا في الغياب ,
بآخر الحروف نحو الممر الضيق إلى المرحاض ,
إذا حكت عن زوجة رفيق الدرب القديم * الضاوي *
تراها تلف وتدور حذر التصريح ,
تكتفي بالتلميح إلى نجاحه في الخروج من عزلة الانفصال عن الحزب , - حصل لابنه على منحة دراسية في *الاتحادي السوفياتي* خلال سنتك الرابعة هناك ,
تقصدين قبل *كورباتشوف* ,
و يسود صمت برائحة الشفقة عليٌ وعليها من شماتة القدر ,
أود أن أحضنها لتفجر بين ذراعي حزنا دفينا , آخر مرة حضنتها, شعرت بفيض أنوثتها في وجه الجدار ,
منذ ذلك اليوم ,
لم تجرؤ على الاحتكاك بي ,
حتى في الليالي المطيرة ,
تظل بيننا مسافة البعد بين الحياة والموت ,
أتأمل العشر سنوات بيننا , يعيدني صوت رخيم إلى الإطار ,
تمتد رقبتها منحلة إلى كتفين متوازنين ناعمي بشرة فاقع لونها ,
لا هي بالبيضاء ولا بالصفراء , ثم لا لتبث أن تجد نفسك بين مقدمة صدرها المحمول بإحكام , فترى ما يشبه القباب استدارة فوق قبور الأولياء الأحياء منهم و الأموات ,
وشدتني أكثر ,
استقامتها رغم ضيق استطالة الإطار ,
فيما كانت زوجتي تعبر ما بين المطبخ والمرحاض ,
واضعة يسراها على خصرها كأنها تثبت حائطا على وشك الميلان , لأول مرة رأيتهما معا أمامي ,
يتباطأ الظل المنحني جهة المؤخرة , فيتَـكَوٌرُ خلفها دوائر حلزونيـة , لا تفضي بك سوى إلى التيه ,
تجاذبني الحنين بين وجه و وجه ,
بين رقبة و رقبة ,
وبين صدر وصدر ,
انفتحت شفتاها لاستئناف نشرة الأخبار , فعلتهما ابتسامة ضيقة بحساب , دون أن تفقد أدنى توازن بين الصوت المنبعث هادئا من طرف لسان , والصمت المنسكب مالحا من بين ثنايا إيماءات دافئة :
وقد انتهت وكالة الأنباء التابعة للجيش الأمريكي في العراق , إلى تصنيف النساء دون الثلاثين , إلى ثلاث فئات ,
فئة الأرامل مما خلفته الحرب بين الفرس و العرب ,
وفئة الثكالى مما تخلفه حرب التحالف ضد شعب العراق ,
- أما الفئة الثالثة فلا زالت تنتظر اللحاق بالأولى أو الثانية ,
لم أرها من قبل تهتم للأخبار ,
- كانت الحرب دينية بين شيعة وسنة ,
لم تكن عرقية بين فرس وعرب ,
كانت أذنها على نشرة الأخبار ,
- إنها تتحدث عن أرامل الحرب ,
رفعت عقيرتي قليلا كي أسمعها صوتي ,
- ليتها كانت واصلت ما حملته الأخبار عن مهرجان التسوق في دبي والرياض , صور جميلة براقة تسر الناظرين , بعيدا عن جثت متناثرة هنا وهناك ,
لم أبال بتعليقها ,
ما زالت إشراقة محياها تثـير الفحولة المهـزومة ,
نسيت كيف يكون انتصاب الذكورة في وجه العاصفة ,
جاملني الطبيب حين اعتبرها حالة نفسية ,
وردها الفقيه إلى العين التي أصابتني ,
تقتحم علي ظلمتي ثانية , تبدو مصرة على إذلالي ,
تعود إلى بورصة المال و الأعمال , تفسح المجال لقراءة تقرير يسيل اللعاب :
كل المؤشرات تدل على ارتفاع مصادر الاغتناء في صحاري النفط , قرأت في عينيها شعورا بالاغتباط وهي ترفع بأناملها الناعمتـيـن خصلة ظلت تعاندها ,
لم أدر إن كانت تتعمد بين الفينة والأخرى , انسياب الذؤابة في تناغـم مع حركة مقدمة الرأس ,
استرقت نظرة من زاوية ضيقة ,
وجدتني أقارن بين وجهها , و وجه قدري المرتكن خلف الباب ,
بدت لي حزينة نال منها الزمن ما يكفي لظهور بثـور الكبر قبل الأوان , ليت نصيـبـها كان أفضل ,
ربما كانت تكون أجمل ,
ماذا حققت لها من أحلام غير السراب ,
صدقت مقالتي في الحب الذي يأتي بعد الزواج , فرهنت حياتها بمصيري المعلق بين أيدي الحكام ,
وصدقت مثلي أن الذي أنا فيه , إنما سبـبه كهـرباء التحقيقات ,
كنت مثلها أعرف أن الكهرباء يمكن أن تقتل الخلايا في الدماغ , أمـا....,
حين زارتني في السجن أول مرة ,
استعطفتها ألا تعود ثانية , خوفا عليها من عيون العسس,
امرأة في العنفوان , تزور محكوما عليه بعشر سنوات ,
تخيلتها تتمسح بالحراس كي يمددوا ساعة زيارتها ,
تغير شكل لباسها في السنة الثانية ,
ينفتح الباب المفضي إلى الممر ,
أعاند الثقب الضيق في الشباك الفاصل ,
أجاهد في قراءة طلعتـها ,
- لماذا لم تلبسي الجلباب ؟
- نحن في فصل الصيف, زحمة المواصلات على مرحلتين , أنت تعرف التهاب المدينة ,
- هل أبدو غير محتـشمة ؟
تخترق ابتسامتها جوارحي ,
- لا تخف علي , كل يوم تكبر في عيني , يزيد حبكَ أكثر ,
- أخاف عليك, جرحكِ غائر في نفسي أعمق من مكابدة الأسر ,
- لم تسألني اليوم عن أحمد , قدمه المعلم للأطفال ضمن النجباء , وخصه بمديح الانتساب إليك ,
المعلم يعرف عن قصتك الشيء الكثير ,
أبي من فوارس هذا الزمان , ظل يرددها طول اليوم ,
- وأين هو الآن؟
- صـار كثير السؤال عنك , لم أشأ أن أصدمه , أكدت له أنك مازلت مسافرا في بلاد الثلج والضباب , خطرت لي فكرة تبرير الغياب بالبحث عن تسوية الأوراق هناك , أظنه يصدقني , يسمع مثل غيره عن العابرين إلى الضفة الأخرى عبر قوارب الموت , فرارا من جحيم الوطن , كل الأخبار تتحدث عن الحصار المضروب على العرب في بلاد العرب والعجم , بدعوى مكافحة الإرهاب ,
أمعن في وجه المذيعة الحسناء ,
تنتفض الرغبة المكبوتة ,
أفكر في الاقتراب منها ,
تمتد يدي إلى أسفل ,
ليـتـني كنت أقوى بعد سنين الرطوبة والبرد .
محمد المهدي السقال
القنيطرة / المغرب
- Commentaires textes : Écrire
دراج 1600;ـة أبــ 1610;
قصة قصيرة
دراجــة أبــي
في الذكرى الثالثة والثلاثين لميلادك ,
مليكة آخر الزمان
فتحت عيني على دراجة أبي غادياً ورائحاً ,
تقعدني أمي فوق العتبة ,
يد تساعده على تثبيت ما يشبه خرقة مكومة إلى الخلف ,
وأخرى على صدري , حذر الوقوع تسندني إلى الجدار .
يتبادلان نظراتٍ متحركة ,
سأحاول العودة قبل العشاء اليوم ,
ما رأيته أبداً يقبلها بأي شكل من الأشكال , ثم يغيب في عمق الدرب.
في الصباحات الصيفية كما في الصباحات الخريفية , باكراً يستيقظ على صياح ديك الجيران الرومي ,
يتسلل بين غبش الفجر المطل من كوة صغيرة ,
أرمق خياله المنسحب بقامته القصيرة ,
تخلص من الملاءة برفق , فضحه السعال ,
حاولتِ النهوض :
ـ دعيه ينام , ليست لديه مدرسة اليوم
أتظاهر بإغماض جفني , تماما كما يفعل التمساح في الرسوم المتحركة , متلصصاً جـرٌ خطواته المتئدة نحو المطبخ ,
على غير عادته ,
أخلف موعده مع تفريغ مثانته ,
حيناً تظل بالفراش وعينها عليه , وأحياناً تقوم خلفه لإعداد ما تيسر من طعام غياب يوم بأكمله .
ـ عييت ..
ـ الله يعفو عليك من الخدمة مع النصارى
تنبها إلى استراقي السمع ,
أشار عليها بسبابته , ثم غير وجهته إلى المرحاض يسبقه كلام مبهم ,
حين كبرت معي حاجتي إلى التخلص من السائل الصباحي ,
بدأت أتضايق من تأخر أبي بالدقائق ,
غير أني حين أتسمع غرغرة بطنه , والهواء منسحب تحت الضغط يخرج صفيرا متموجا , أعطف عليه , أنسى اشتداد حرقة التبول , ذات يوم ,
اضطررت إلى الخروج للدرب ,
هل رآني أحد ؟ التصقت نظراتي بعشب يركن زاوية الحائط , كان ذاويا , اجتمعت عليه الطبيعة بجفافها , والبشر بجفائهم ,
وددت لو اعتصر قطرات إضافية هذه المرة ,
لبعث النبتة من جديد , لم أر أحدا في الأفق .
ـ تعبت من التذلل كل يوم , أشعر أنني صرت حمارا غير مرغوب فيه ,
لا تشاركه حديث نفسه بصوت مرتفع ,
تسبقه الدراجة على إيقاع احتكاكِ الصدأ , يخرج ُ .
ـ الله يجيب التيسير ,
تشيعه إلى أن يغيب عن الدرب ,
مـرة ,
تعثرتْ عجلته الأولى فوقع ,
نفس النتوءات لا تزيد إلا اتساعاً , تعاقبت المجالس البلدية على نفس الدرب
,فشلت رغم تلونات أطيافها السياسية بين اليمين واليسار,
في رص مساحة مائة متر,
صار دربنا علامة إدانة في رقبة كل المسؤولين ,
قال أحد الرؤساء : هذا الدرب مسكون بالجنون , لا نغلق فتحة من الفتحات اللعينة هنا , حتى يطل الوادي الحار , ليعود ثانية وثالثة ورابعة هناك ,
مازالت الحفر تحضن ماء المطر كل موسم شتاء ,
ومازالت القنوات تأبى ترقيعات مواسم الانتخابات
ـ الله يلعن أولاد الحرام . يقولون ما لا يفعلون . لا فرق بين حكام صغار وحكام كبار .
يخترق الحوار الهادئ مسمعي ,
بل هناك فرق ,
يستمر الكبار كباراً بينما يبقى الصغار صغاراً ,
ليته كان يسمعني , ليعرف حجم الغضب الذي ورثته عنه .
ـ أفٌ على هذا البلد ,
تحسبني مستغرقاً في نومي ,
تسحب الغطاء إلى الأعلى , وجهي للجدار, أرسمُ عبرَهُ صورة لأبي فارساً يركب حصاناً أخضر ,
رغم مضي أربعين عاما ,
ما تزال العجلة الأمامية ماثلة في الذاكرة ,
يصل متعباً يلفه ثوبه الداكن ,
يترجل قبل الوصول إلى فتحة الدرب الذي لم يزدد إلا ضيقاً , مغمغما بكلمات لم أستبنها في البداية ,
يفرك شعري بأصابعه المعروقة ,
ـ الله يرضي عليك ,
ثم يحمل الدراجة على كتفيه , أعرف الباقي ,
سيقلب أسفلها إلى الأعلى , تتأرجح العجلتان نحو الدوران , تسليتي الوحيدة , اغتنام فرصة القلب تلك , لأدخل سبابتي اليسرى بين الأسلاك,
تتحرك العجلة دورة أو دورتين , فتحدث أزيزا أشبه باحتكاك مفاصل مدخل البيت المهترئ ,
ـ واش باغي تخسرها ؟
ـ خلي الدري يلعب , مالكِ أنتِ مع هذه الشقفة ؟
سألت أبي في سن العاشرة ,
عن السر في احتفاظه بنفس الدراجة , رغم الوهن الذي أصابها , مقودها لا يستقيم في اتجاه واحد ,
تعرضه للسقوط عند أبسط انحراف عن بثور الدرب المحكوم عليه بالإهمال إلى يوم الدين ,
يمسك برأسي إلى حضنه , أحاول أن أقرأ في عينيه قلق العمر الذي يضيع بين صبح ومساء ,
ـ عمي *عبد السلام* باع دراجته , اشترى له *موطور*
لم يلتفت لكلامي ,
نظر إليها , ثم استغرق يصفها كعادته ,
عرفت فيما بعد , أنه كان قريبا مما يشبه الغزل في النساء , يستوفى متابعة أجزائها قطعـة قطعـة , كأنه يلامسها بكل مشاعره , لماذا لم يبادل أمي مثل هذا التعلق الذي ينساب في كلمات عشق جنوني ؟
مرة ,
خطرت لي فكرة حساب الزمن الذي يقضيانه مع بعض ,
حين بدأت أعي شيئا اسمه العاطفة بين الرجل والمرأة ,
يخرج حوالي السادسة , بعد انتهاء شيخـنـا , من حديث الفجر حول آيات من القرآن عبر المذياع ,
لا تفارقني صيحاته المنذرة , *عباد الله* ...,
كأني به يقربنا من ساعة القيامة , يكررها لازمة بتفخيم اللاءات , ظلت تثير في رعشة الخوف من شيء ما ,
كان الشيخ قبل الاستقلال زعيم الوحدة والإصلاح ,
صار بعد الاستقلال , وزيراً الدولة بأكثر من قدم ,
قيل إنه كان متصوفا يسكر بالذكر وبغيره في مواضع شتى ,
وقيل إنه كان يعشق النساء ,
ظـل أبي يحترم الرجل , قال عنه إنـه أغمـط حقـه ,
ولا يعود أبي إلا بعد غروب الشمس إن كان الجو صحوا , أو قبيل صلاة العشاء في الفصول المطيرة ,
واحدة أيام الأسبوع بلا فرق سوى يوم الجمعة , يحلق الشارب ويعفي على اللحية المبرقشة بين أسود وأبيض ,
يذهب إلى حمام الحي البلدي ,
ألِفتُ أن أرى أمي صباحات يوم الجمعة أكثر نشاطا وحيوية ,
لكنني لم أدرك سر اغتباطها إلا بعد موته ,
تسللت إلى مسامعي أشياء من حياتهما الجنسية , يشبه بعضها ما قرأته في الروض العاطر في نزهة الخاطر , وما أن يرجع , حتى تبدأ الاستعدادات لصلاة الجمعة ...
ـ كم أمضيا مع بعض ؟ بحساب غلاف زمن المعاشرة بينهما ,
انتهيت إلى أنهما لم يكونا مع بعض أو جنبا إلى جنب , إلا بمعدل خمسة في المائة ,
وأنجباني ,
وربياني ,
علق أحد أصدقائي على الحساب :
ـ في البداية تكون النسبة عالية ,
ثم تأخذ في الانخفاض مع توالي انكسارات الحياة ,
أمك محظوظة بهذه النسبة , لا أظن أن حظ أمي كان أوفر , هجر البلاد والعباد بعد الزواج مباشرة ,
كل إخوتي ولدوا في شهر معلوم ,
عرفنا فيما بعد , أن مجيئه بين العامين في أحسن الأحوال , هو الفرصة الوحيدة التي تتاح للتلقيح , تصور أنني كنت أنسى صورته بعد طول غياب .
لمحت في قسمات وجهه تقلصا لا ينم إلا عن رغبة في الانطلاق ثانية للحكي عن دراجته العجيبة ,
أظنه كان يسهو ,
فقد ردد على مسامعي ألف مرة ومرة , قصة شرائها ,
هي كل ما تبقى في ذاكرتي من أجمل حكاياه .
أثناء فترة الاستعمار , أو ما وصفها معلم التاريخ بعهد الحماية , رق قلب *الموسيو بلانشارد* ,
لما رآه من معاناة أبي مع الطريق بين البيت والمزرعة ,
تأخذ منه الأربعة أميال ساعة ونصفها ,
عرض عليه شراء دراجة,
وعده بالمساهمة في ثمنها ,
عاد أبي ذلك المساء لا تسعه فرحة , أذكر أنه دخل مبتهجا يدور حول أمي كطفل فرح بلعبته .
ـ انظري , اشترى لي دراجة , هل ترين لونها ؟ إنها خضراء ,
يحاول أن يعرضها لمدخل الضوء الوحيد من الباب ,
- الأخضر لون السعد ,
تمنتْ له أن لا يستفيق من لحظة انتشائه , كأني بها تقول له :
وهل اشتراها لك من أجل سواد عينيك ؟,
لم أفكر في حيلة *الميسيو بلانشارد* إلا بعد عشر سنوات ,
قولي له بأن الغريب إنما فعل ذلك , لكي يربح من زاد العمر الذي كان يهرق عرقا بين رجليه ,
ليته كان هنا,
تدخل الشيباني الذي ظل يفتخر بالازدياد في المغرب , ليكون القسط المؤدى أسبوعيا , مناسبا لأجر أبي , لكن ولاءه لفرنسا أرضا واعتقادا وهوية كان الأقوى ,
اضطرت أمي لإدخال تغييرات جوهرية على مصروف العيش , تقلصت وجبة الفطور إلى شاي وزيتون مرة , وشاي و زبدة مرة أخرى ,
الخبز والماء وحدهما لم يطرأ عليهما تغيير ,
كانت خالتي ترسل حق أمي من حصتها في بلاد * الجموع * بالبادية ,
لم أعرف لمسقط رأسها موقعا جغرافيا لحد الآن ,
تقوم أمي بتنقية حصة الأسبوع من الحبوب ,
أحمله خلفها إلى الطاحونة ,
لعل *المعلم* النزق كان يغازل أمي ,
يد على الكيس ,
وعين على وجهها الملثم إلى النصف ,
تعود منفرجة الأسارير زائغة الحاجبين , وأنا خلفها أنوء بحمل *الخنشة* ,
و أبي , في كل أسبوع يؤدي قسطا معلوما بين البائع اليهودي والمشتري الفرنسي ,
ـ هل احتفل بنهاية الخصم ؟
وظل بنفس العمل , يصل مبكرا إلى المزرعة ,
يعود مهدودا يتلقفه الفراش
, بعد مكابدة واجب الوضوء والصلاة , كثيرا ما كان ينام من غير عشاء ,
لاحظت الجارة *خدوج* قبل أمي , ملامح العياء على أبي ,
قالت بأنه يدخل الدرب منهوك القوى كالقادم من هزيمة حرب , لكنه لا يلبث أن يجاهد في الصمود كلما اقترب من الباب
تأكدت أمي من الحكاية بنفسها ذات مساء , تكومت خلف ثقب المفتاح في انتظار وصوله ,
ـ هل جاء ؟
ـ مازال .
تستريح قليلا ثم تتكوم ,
ـ ها هو . معها الحق , نزل عن دراجته , أمسك بالمقود كي لا يسبقها إلى الوقوع ,
يتقدم بخطوات وئيدة ,
يدنو ,
يقترب ,
لعله يسترجع أنفاسه للاستقامة قبل بلوغ العتبة ,
ـ أريد أن أرى
صورة أبي محزنة ,
نفس الثوب الأزرق الداكن ,
لكنه لم يكن يركب دراجته كالفارس الذي كان .
محمد المهدي السقال
دراجــة أبــي
في الذكرى الثالثة والثلاثين لميلادك ,
مليكة آخر الزمان
فتحت عيني على دراجة أبي غادياً ورائحاً ,
تقعدني أمي فوق العتبة ,
يد تساعده على تثبيت ما يشبه خرقة مكومة إلى الخلف ,
وأخرى على صدري , حذر الوقوع تسندني إلى الجدار .
يتبادلان نظراتٍ متحركة ,
سأحاول العودة قبل العشاء اليوم ,
ما رأيته أبداً يقبلها بأي شكل من الأشكال , ثم يغيب في عمق الدرب.
في الصباحات الصيفية كما في الصباحات الخريفية , باكراً يستيقظ على صياح ديك الجيران الرومي ,
يتسلل بين غبش الفجر المطل من كوة صغيرة ,
أرمق خياله المنسحب بقامته القصيرة ,
تخلص من الملاءة برفق , فضحه السعال ,
حاولتِ النهوض :
ـ دعيه ينام , ليست لديه مدرسة اليوم
أتظاهر بإغماض جفني , تماما كما يفعل التمساح في الرسوم المتحركة , متلصصاً جـرٌ خطواته المتئدة نحو المطبخ ,
على غير عادته ,
أخلف موعده مع تفريغ مثانته ,
حيناً تظل بالفراش وعينها عليه , وأحياناً تقوم خلفه لإعداد ما تيسر من طعام غياب يوم بأكمله .
ـ عييت ..
ـ الله يعفو عليك من الخدمة مع النصارى
تنبها إلى استراقي السمع ,
أشار عليها بسبابته , ثم غير وجهته إلى المرحاض يسبقه كلام مبهم ,
حين كبرت معي حاجتي إلى التخلص من السائل الصباحي ,
بدأت أتضايق من تأخر أبي بالدقائق ,
غير أني حين أتسمع غرغرة بطنه , والهواء منسحب تحت الضغط يخرج صفيرا متموجا , أعطف عليه , أنسى اشتداد حرقة التبول , ذات يوم ,
اضطررت إلى الخروج للدرب ,
هل رآني أحد ؟ التصقت نظراتي بعشب يركن زاوية الحائط , كان ذاويا , اجتمعت عليه الطبيعة بجفافها , والبشر بجفائهم ,
وددت لو اعتصر قطرات إضافية هذه المرة ,
لبعث النبتة من جديد , لم أر أحدا في الأفق .
ـ تعبت من التذلل كل يوم , أشعر أنني صرت حمارا غير مرغوب فيه ,
لا تشاركه حديث نفسه بصوت مرتفع ,
تسبقه الدراجة على إيقاع احتكاكِ الصدأ , يخرج ُ .
ـ الله يجيب التيسير ,
تشيعه إلى أن يغيب عن الدرب ,
مـرة ,
تعثرتْ عجلته الأولى فوقع ,
نفس النتوءات لا تزيد إلا اتساعاً , تعاقبت المجالس البلدية على نفس الدرب
,فشلت رغم تلونات أطيافها السياسية بين اليمين واليسار,
في رص مساحة مائة متر,
صار دربنا علامة إدانة في رقبة كل المسؤولين ,
قال أحد الرؤساء : هذا الدرب مسكون بالجنون , لا نغلق فتحة من الفتحات اللعينة هنا , حتى يطل الوادي الحار , ليعود ثانية وثالثة ورابعة هناك ,
مازالت الحفر تحضن ماء المطر كل موسم شتاء ,
ومازالت القنوات تأبى ترقيعات مواسم الانتخابات
ـ الله يلعن أولاد الحرام . يقولون ما لا يفعلون . لا فرق بين حكام صغار وحكام كبار .
يخترق الحوار الهادئ مسمعي ,
بل هناك فرق ,
يستمر الكبار كباراً بينما يبقى الصغار صغاراً ,
ليته كان يسمعني , ليعرف حجم الغضب الذي ورثته عنه .
ـ أفٌ على هذا البلد ,
تحسبني مستغرقاً في نومي ,
تسحب الغطاء إلى الأعلى , وجهي للجدار, أرسمُ عبرَهُ صورة لأبي فارساً يركب حصاناً أخضر ,
رغم مضي أربعين عاما ,
ما تزال العجلة الأمامية ماثلة في الذاكرة ,
يصل متعباً يلفه ثوبه الداكن ,
يترجل قبل الوصول إلى فتحة الدرب الذي لم يزدد إلا ضيقاً , مغمغما بكلمات لم أستبنها في البداية ,
يفرك شعري بأصابعه المعروقة ,
ـ الله يرضي عليك ,
ثم يحمل الدراجة على كتفيه , أعرف الباقي ,
سيقلب أسفلها إلى الأعلى , تتأرجح العجلتان نحو الدوران , تسليتي الوحيدة , اغتنام فرصة القلب تلك , لأدخل سبابتي اليسرى بين الأسلاك,
تتحرك العجلة دورة أو دورتين , فتحدث أزيزا أشبه باحتكاك مفاصل مدخل البيت المهترئ ,
ـ واش باغي تخسرها ؟
ـ خلي الدري يلعب , مالكِ أنتِ مع هذه الشقفة ؟
سألت أبي في سن العاشرة ,
عن السر في احتفاظه بنفس الدراجة , رغم الوهن الذي أصابها , مقودها لا يستقيم في اتجاه واحد ,
تعرضه للسقوط عند أبسط انحراف عن بثور الدرب المحكوم عليه بالإهمال إلى يوم الدين ,
يمسك برأسي إلى حضنه , أحاول أن أقرأ في عينيه قلق العمر الذي يضيع بين صبح ومساء ,
ـ عمي *عبد السلام* باع دراجته , اشترى له *موطور*
لم يلتفت لكلامي ,
نظر إليها , ثم استغرق يصفها كعادته ,
عرفت فيما بعد , أنه كان قريبا مما يشبه الغزل في النساء , يستوفى متابعة أجزائها قطعـة قطعـة , كأنه يلامسها بكل مشاعره , لماذا لم يبادل أمي مثل هذا التعلق الذي ينساب في كلمات عشق جنوني ؟
مرة ,
خطرت لي فكرة حساب الزمن الذي يقضيانه مع بعض ,
حين بدأت أعي شيئا اسمه العاطفة بين الرجل والمرأة ,
يخرج حوالي السادسة , بعد انتهاء شيخـنـا , من حديث الفجر حول آيات من القرآن عبر المذياع ,
لا تفارقني صيحاته المنذرة , *عباد الله* ...,
كأني به يقربنا من ساعة القيامة , يكررها لازمة بتفخيم اللاءات , ظلت تثير في رعشة الخوف من شيء ما ,
كان الشيخ قبل الاستقلال زعيم الوحدة والإصلاح ,
صار بعد الاستقلال , وزيراً الدولة بأكثر من قدم ,
قيل إنه كان متصوفا يسكر بالذكر وبغيره في مواضع شتى ,
وقيل إنه كان يعشق النساء ,
ظـل أبي يحترم الرجل , قال عنه إنـه أغمـط حقـه ,
ولا يعود أبي إلا بعد غروب الشمس إن كان الجو صحوا , أو قبيل صلاة العشاء في الفصول المطيرة ,
واحدة أيام الأسبوع بلا فرق سوى يوم الجمعة , يحلق الشارب ويعفي على اللحية المبرقشة بين أسود وأبيض ,
يذهب إلى حمام الحي البلدي ,
ألِفتُ أن أرى أمي صباحات يوم الجمعة أكثر نشاطا وحيوية ,
لكنني لم أدرك سر اغتباطها إلا بعد موته ,
تسللت إلى مسامعي أشياء من حياتهما الجنسية , يشبه بعضها ما قرأته في الروض العاطر في نزهة الخاطر , وما أن يرجع , حتى تبدأ الاستعدادات لصلاة الجمعة ...
ـ كم أمضيا مع بعض ؟ بحساب غلاف زمن المعاشرة بينهما ,
انتهيت إلى أنهما لم يكونا مع بعض أو جنبا إلى جنب , إلا بمعدل خمسة في المائة ,
وأنجباني ,
وربياني ,
علق أحد أصدقائي على الحساب :
ـ في البداية تكون النسبة عالية ,
ثم تأخذ في الانخفاض مع توالي انكسارات الحياة ,
أمك محظوظة بهذه النسبة , لا أظن أن حظ أمي كان أوفر , هجر البلاد والعباد بعد الزواج مباشرة ,
كل إخوتي ولدوا في شهر معلوم ,
عرفنا فيما بعد , أن مجيئه بين العامين في أحسن الأحوال , هو الفرصة الوحيدة التي تتاح للتلقيح , تصور أنني كنت أنسى صورته بعد طول غياب .
لمحت في قسمات وجهه تقلصا لا ينم إلا عن رغبة في الانطلاق ثانية للحكي عن دراجته العجيبة ,
أظنه كان يسهو ,
فقد ردد على مسامعي ألف مرة ومرة , قصة شرائها ,
هي كل ما تبقى في ذاكرتي من أجمل حكاياه .
أثناء فترة الاستعمار , أو ما وصفها معلم التاريخ بعهد الحماية , رق قلب *الموسيو بلانشارد* ,
لما رآه من معاناة أبي مع الطريق بين البيت والمزرعة ,
تأخذ منه الأربعة أميال ساعة ونصفها ,
عرض عليه شراء دراجة,
وعده بالمساهمة في ثمنها ,
عاد أبي ذلك المساء لا تسعه فرحة , أذكر أنه دخل مبتهجا يدور حول أمي كطفل فرح بلعبته .
ـ انظري , اشترى لي دراجة , هل ترين لونها ؟ إنها خضراء ,
يحاول أن يعرضها لمدخل الضوء الوحيد من الباب ,
- الأخضر لون السعد ,
تمنتْ له أن لا يستفيق من لحظة انتشائه , كأني بها تقول له :
وهل اشتراها لك من أجل سواد عينيك ؟,
لم أفكر في حيلة *الميسيو بلانشارد* إلا بعد عشر سنوات ,
قولي له بأن الغريب إنما فعل ذلك , لكي يربح من زاد العمر الذي كان يهرق عرقا بين رجليه ,
ليته كان هنا,
تدخل الشيباني الذي ظل يفتخر بالازدياد في المغرب , ليكون القسط المؤدى أسبوعيا , مناسبا لأجر أبي , لكن ولاءه لفرنسا أرضا واعتقادا وهوية كان الأقوى ,
اضطرت أمي لإدخال تغييرات جوهرية على مصروف العيش , تقلصت وجبة الفطور إلى شاي وزيتون مرة , وشاي و زبدة مرة أخرى ,
الخبز والماء وحدهما لم يطرأ عليهما تغيير ,
كانت خالتي ترسل حق أمي من حصتها في بلاد * الجموع * بالبادية ,
لم أعرف لمسقط رأسها موقعا جغرافيا لحد الآن ,
تقوم أمي بتنقية حصة الأسبوع من الحبوب ,
أحمله خلفها إلى الطاحونة ,
لعل *المعلم* النزق كان يغازل أمي ,
يد على الكيس ,
وعين على وجهها الملثم إلى النصف ,
تعود منفرجة الأسارير زائغة الحاجبين , وأنا خلفها أنوء بحمل *الخنشة* ,
و أبي , في كل أسبوع يؤدي قسطا معلوما بين البائع اليهودي والمشتري الفرنسي ,
ـ هل احتفل بنهاية الخصم ؟
وظل بنفس العمل , يصل مبكرا إلى المزرعة ,
يعود مهدودا يتلقفه الفراش
, بعد مكابدة واجب الوضوء والصلاة , كثيرا ما كان ينام من غير عشاء ,
لاحظت الجارة *خدوج* قبل أمي , ملامح العياء على أبي ,
قالت بأنه يدخل الدرب منهوك القوى كالقادم من هزيمة حرب , لكنه لا يلبث أن يجاهد في الصمود كلما اقترب من الباب
تأكدت أمي من الحكاية بنفسها ذات مساء , تكومت خلف ثقب المفتاح في انتظار وصوله ,
ـ هل جاء ؟
ـ مازال .
تستريح قليلا ثم تتكوم ,
ـ ها هو . معها الحق , نزل عن دراجته , أمسك بالمقود كي لا يسبقها إلى الوقوع ,
يتقدم بخطوات وئيدة ,
يدنو ,
يقترب ,
لعله يسترجع أنفاسه للاستقامة قبل بلوغ العتبة ,
ـ أريد أن أرى
صورة أبي محزنة ,
نفس الثوب الأزرق الداكن ,
لكنه لم يكن يركب دراجته كالفارس الذي كان .
محمد المهدي السقال
- Commentaires textes : Écrire
رقصة الكل 1575;ب
رقصة الكلاب
حين عرض عليها قصته الجديدة تحت نفس العنوان , استغربت اختياره , ليس لأن الكلاب لا تُعرف برقصة معينة, ولكن لأنه مازال متأثرا مثل كثير من قراء الستينيات من القرن الماضي , برواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ . حاول تبرير استعمال الكلاب في الجملة , بالأثر النفسي الذي يحدثه توظيف الاستعارة كما تعلمها في دروس البلاغة:
أنا نفسي لم أسمع برقصة مخصوصة للكلاب على الحقيقة , غير أن القارئ سيميز منذ الوهلة الأولى بين كلاب الوفاء وكلاب الغدر .
لم تبال بكلامه , لطالما حز في نفسها إصراره على مواصلة ما يسميه نقد وفضح كلاب هذا الزمان , و بقدر ما كانت حريصة على إبعاده عن رفاق الحزب الذين ظلوا رافضين لدعوة التوبة , بقدر ما كان مصرا على العيش بذاكرته ,
ألا ترى أن الخطوبة قد طال أمدها , متى سيجمعنا سقف واحد ؟
أمسك عن الرد عليها , وفي نفسه رغبة جامحة للإعلان أمامها , بأن القصة موضوع الحوار واقعية , وأنه عاش تفاصيلها الوقحة على مرأى ومسمع حضور تلك الحفلة المقيتة ,
كيف يشرح لها أنه كان في أسوأ وضع لا يتمناه حتى العدو لعدوه ؟
انشغلت عنه بالاستعداد للالتحاق بالكلية , فوجد مخرجا من سخريتها الباردة , ليـتها أدركت ما يعانيه بعد انتهاء كل يوم ,
يسلم رأسه للوسادة , فيغلي كالمرجل في دائرة مغلقة.
يتحدث عن الليلة الليلاء بين الكبار في حفل تكريم وزير , يقولون انتهت مدة توليته , ويقول انتهت مدة صلاحيته , لم تكن لتتاح له فرصة رؤية الوزراء بقدهم وقامتهم الحقيقيتين ,
لولا انتقالُه إلى العاصمة , بحثاً عن عمل كيفما كان , بعد أن ضاقت به السبل , وغُلِّقَت في وجهه كل احتمالات الوصول إلى وظيفة في الإدارة , عَقِبَ تخرُّجه بامتياز , من المعهد العالي للتدبير السياسي ,
وصل مبكرا ضمن عمال متعهد الحفلات , بعد ليلة معاناة مع التفكير في اتخاذ قرار , يحسم في القبول أو الرفض , استدعاه " المعلم " بنفسه , ليطلب منه الحضور باكرا ,
افْرَحْ أسِيدي , سيحصل لك شرف توزيع الشاي على الوزراء ,
وأضاف أنه قد وقع الاختيار عليه , اعتماداً على الهيئة التي يتمتع بها , طول وعرض و وسامة , ابتسم قبل أن يستدرك, أريدك أنيقا أكثر من اللازم , أريد أن " تُـحَـمِّـرَ " لي وجهي بين السادة الوزراء , سيختار لك " عباس " ما يناسبك من اللباس , كي تبدو منسجما مع الجو.
كدت أسأله عما إذا كنت سأقوم بمهمة أخرى غير النادل الذي كنت , لولا أنني لجمت فمي اتقاء غضب " المعلم " , تذكرت أمي حين كانت تقول بأن فمي يأكلني , لا أطيق صبراً لمجرد التلميح , ناهيك عن التصريح , و أتعجب الآن كيف صرت أستطيع لجم فمي , خوفا من استشاطة " المعلم" ضدي ,
عانده النوم فاشتد به الأرق , وهو يتمنى لو يخلد لنومة عميقة تعفيه من الاستمرار في الانشغال بموعد الغد ,
نظر إلى بدلته اليومية ملتصقة بالجدار , وجه إليها أصبعه الأوسط , ثم ما لبث أن وجد نفسه يرد الأصبع إلى صدره, تسمَّع في فضاء الغرفة الوحيدة في سطح العمارة , صوتا يتسلل من ثوب البدلة البنية :
على الأقل , معي كنت محتفظا بكرامتك , واستوقفه الحرف الأخير في مقدمة الحلق ,
كان يحدث نفسه بصوت مرتفع ,
حكى لي عن تلك الليلة و ما تلاها , فتفهمت كيف ظلت كل التفاصيل محفورة في ذاكرته , لم يكن يتصور يوما أن يكون ضحية عرض رخيص في حفل تكريم الوزير ,
وصل مبكرا ضمن شباب لم يسبق أن كانوا ضمن عمال المتعهد , هل كان أكبرهم سنا , من الصعب التمييز , لكن ما يميز المجوعة من سبعة أفراد , اشتراك في وسامة الوجوه ,
قال له " عباس " وهو يدعوه لقياس لباس اختاره له , بأن اللون الأخضر يناسب بشرة محياه , لكنه لم يفكر سوى في حرص المؤسسة على الظهور بما سيتناسب مع المقام ,
سيكون هناك الوزراء والكتاب العامون والولاة , و من يدري ؟ قد تحدث مفاجئات غير منتظرة , قالها " عباس " وهو يبتلع ريقه ,
طال انتظار لحظة بداية الاستقبال , بقي مسمرا في نفس المكان زهاء أربع ساعات , احتدت شدة الرغبة في الخروج , كيف يعلن عن حاجته الملحة للتبول , مع مَن سيتكلم ؟ اشتدت الحرقة أكثر ,
ذكر لي أنه قبل إطلاق سراحه بالصدفة , إذ هلَّ عليه " عباس " , ليذكره بالابتسام العريض للمدعويين , أن بعض القطرات كانت قد تحررت من سيطرته على الممر , فنزلت دافئة يحضنها قماش مخصوص ,
وبعد العودة تسمر أكثر من ثلاث ساعات , قبل أن يهل أول طالع بحاشيته , اصطنع الابتسامة المنصوح بها , تنبه إلى متابعة الزائر بعينيه , تفاصيل هيئته , كاد يضطرب , ود لو كان أمام مرآة , ليتأكد من حسن اصطناعه لتلك الابتسامة العريضة ,
وصل الثاني والثالث والرابع والخامس , يسبقهم إعلان ترحيب المكلف الأول بالاستقبال ,
كلهم نظروا إليه من نفس الزاوية ,
لكنهم كانوا يبتسمون له ,
عادت إليه ثقته بنفسه, فصار ينحني برأسه قليلا للاستجابة إلى ما يشبه التحية منهم ,
لو لم تمر هذه المرحلة بسلام , لربما كان قد وجد نفسه مطرودا ملوما محسورا , لكن الله ستر , فقد اختير من بين السبعة , ليكون ثالث فتيان التحرك داخل القاعة المغلقة ,
يالله , " حمروا لي وجهي " ,
وانسحب " المعلم " , يشير بيده اليمنى للتأكيد على حسن الانضباط للجو , أثارتني حركة الفتى الأول وهو يرد بالإيجاب على " المعلم " , كدت أضحك من حركاته الأنثوية متوازية مع إيقاع صوته الرخيم , لم أكن أعرف أنه هو نفسه من سيتولى الإشراف على توجيهنا بين الموائد ,
ذكر لي صاحبي , أنه لم ينتبه لشيء , إلا حين فاجأته كف ناعمة تمرر أناملها على مؤخرته , لم يستدر خلفه للتثبت من الحكاية , لكن دهدهة السيد الوزير تبعت خطوه ,
أحس بالمهانة القصوى حين أدرك الموقف الذي حشر فيه ,
كيف يبدي مقاومة ما ؟
رمق الفتى الأول بين رجلين يبادلانه الحديث كأنه منهم , ركز بصره للتحقق , بدا له الفتى كأنه يترنح بين الأيدي المداعبة ,
فجأة , رفع الستار عن فرقة موسيقية من خمسة أفراد معـصوبي العيون , كيف سيعزفون ؟
جاءه الرد سريعا بالشروع في تسوية الأوتار بين العود والكمان , لعلهم يتهيأون لعزف مقطوعة " الأطلس " , كان يعرفها بافتتاح دقة " البندير " مفردة ,
انتهى توزيع الكؤوس التي لم يمسسها شاي , وفي نفسي سؤال عن السوائل التي سيتناولها الحضور الكريم , الأكواب معلومة , قطع حبل تفكيره الفتى الأول , وهو يمد إليه قنينة " الويسكي " :
أنتَ ستتكلف بالخدر على يسار الفرقة , انتبه , كن خفيف الرأس , هاوِدِ الضيوف الكرام , سايِرْهُمْ في نشاطهم , من يدري ؟ ربما تحظى بالقبول والرضاء , فتفتح لك ليلة القدر,
صعدتُ تنهيدة عميقة , امتزجت فيها رغبة في الضحك مرة أخرى من هذا الجسد المخنث في هيئة رجل , برهبة من توجس السوء به في هذا الحفل الموقر , لقد وقعت ,
وذكر لي صاحبي كيف مرت عليه لحظات احتمال تفاهات أحد الشخصيات المرموقة في البلد ,
ود لو أن الأرض ابتلعته , لئلا يتذكر كيف تركه يداعبه من الخلف ,
في البداية , وجد تبريرا في حالة السكر , فقد جرت العادة أن يفقد الشارب المنتشي صوابه , ليأتي ما لا يحتمل , لكنه في النهاية , أيقن أنه وسط شواذ بامتياز ,
قال لي بأنه إلى حد الآن , لا يعرف الفاعل من المفعول , ابتسمت لروايته , لم تنفعكَ حصيلة القواعد , رغم أنك حصلت فيها على شهادة الإجازة ,
بقي صاحبي جديا في حكيه عن تلك الليلة , وأضاف , كانوا يتقنون رقصة الكلاب
.
محمد المهدي السقال
المغرب
حين عرض عليها قصته الجديدة تحت نفس العنوان , استغربت اختياره , ليس لأن الكلاب لا تُعرف برقصة معينة, ولكن لأنه مازال متأثرا مثل كثير من قراء الستينيات من القرن الماضي , برواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ . حاول تبرير استعمال الكلاب في الجملة , بالأثر النفسي الذي يحدثه توظيف الاستعارة كما تعلمها في دروس البلاغة:
أنا نفسي لم أسمع برقصة مخصوصة للكلاب على الحقيقة , غير أن القارئ سيميز منذ الوهلة الأولى بين كلاب الوفاء وكلاب الغدر .
لم تبال بكلامه , لطالما حز في نفسها إصراره على مواصلة ما يسميه نقد وفضح كلاب هذا الزمان , و بقدر ما كانت حريصة على إبعاده عن رفاق الحزب الذين ظلوا رافضين لدعوة التوبة , بقدر ما كان مصرا على العيش بذاكرته ,
ألا ترى أن الخطوبة قد طال أمدها , متى سيجمعنا سقف واحد ؟
أمسك عن الرد عليها , وفي نفسه رغبة جامحة للإعلان أمامها , بأن القصة موضوع الحوار واقعية , وأنه عاش تفاصيلها الوقحة على مرأى ومسمع حضور تلك الحفلة المقيتة ,
كيف يشرح لها أنه كان في أسوأ وضع لا يتمناه حتى العدو لعدوه ؟
انشغلت عنه بالاستعداد للالتحاق بالكلية , فوجد مخرجا من سخريتها الباردة , ليـتها أدركت ما يعانيه بعد انتهاء كل يوم ,
يسلم رأسه للوسادة , فيغلي كالمرجل في دائرة مغلقة.
يتحدث عن الليلة الليلاء بين الكبار في حفل تكريم وزير , يقولون انتهت مدة توليته , ويقول انتهت مدة صلاحيته , لم تكن لتتاح له فرصة رؤية الوزراء بقدهم وقامتهم الحقيقيتين ,
لولا انتقالُه إلى العاصمة , بحثاً عن عمل كيفما كان , بعد أن ضاقت به السبل , وغُلِّقَت في وجهه كل احتمالات الوصول إلى وظيفة في الإدارة , عَقِبَ تخرُّجه بامتياز , من المعهد العالي للتدبير السياسي ,
وصل مبكرا ضمن عمال متعهد الحفلات , بعد ليلة معاناة مع التفكير في اتخاذ قرار , يحسم في القبول أو الرفض , استدعاه " المعلم " بنفسه , ليطلب منه الحضور باكرا ,
افْرَحْ أسِيدي , سيحصل لك شرف توزيع الشاي على الوزراء ,
وأضاف أنه قد وقع الاختيار عليه , اعتماداً على الهيئة التي يتمتع بها , طول وعرض و وسامة , ابتسم قبل أن يستدرك, أريدك أنيقا أكثر من اللازم , أريد أن " تُـحَـمِّـرَ " لي وجهي بين السادة الوزراء , سيختار لك " عباس " ما يناسبك من اللباس , كي تبدو منسجما مع الجو.
كدت أسأله عما إذا كنت سأقوم بمهمة أخرى غير النادل الذي كنت , لولا أنني لجمت فمي اتقاء غضب " المعلم " , تذكرت أمي حين كانت تقول بأن فمي يأكلني , لا أطيق صبراً لمجرد التلميح , ناهيك عن التصريح , و أتعجب الآن كيف صرت أستطيع لجم فمي , خوفا من استشاطة " المعلم" ضدي ,
عانده النوم فاشتد به الأرق , وهو يتمنى لو يخلد لنومة عميقة تعفيه من الاستمرار في الانشغال بموعد الغد ,
نظر إلى بدلته اليومية ملتصقة بالجدار , وجه إليها أصبعه الأوسط , ثم ما لبث أن وجد نفسه يرد الأصبع إلى صدره, تسمَّع في فضاء الغرفة الوحيدة في سطح العمارة , صوتا يتسلل من ثوب البدلة البنية :
على الأقل , معي كنت محتفظا بكرامتك , واستوقفه الحرف الأخير في مقدمة الحلق ,
كان يحدث نفسه بصوت مرتفع ,
حكى لي عن تلك الليلة و ما تلاها , فتفهمت كيف ظلت كل التفاصيل محفورة في ذاكرته , لم يكن يتصور يوما أن يكون ضحية عرض رخيص في حفل تكريم الوزير ,
وصل مبكرا ضمن شباب لم يسبق أن كانوا ضمن عمال المتعهد , هل كان أكبرهم سنا , من الصعب التمييز , لكن ما يميز المجوعة من سبعة أفراد , اشتراك في وسامة الوجوه ,
قال له " عباس " وهو يدعوه لقياس لباس اختاره له , بأن اللون الأخضر يناسب بشرة محياه , لكنه لم يفكر سوى في حرص المؤسسة على الظهور بما سيتناسب مع المقام ,
سيكون هناك الوزراء والكتاب العامون والولاة , و من يدري ؟ قد تحدث مفاجئات غير منتظرة , قالها " عباس " وهو يبتلع ريقه ,
طال انتظار لحظة بداية الاستقبال , بقي مسمرا في نفس المكان زهاء أربع ساعات , احتدت شدة الرغبة في الخروج , كيف يعلن عن حاجته الملحة للتبول , مع مَن سيتكلم ؟ اشتدت الحرقة أكثر ,
ذكر لي أنه قبل إطلاق سراحه بالصدفة , إذ هلَّ عليه " عباس " , ليذكره بالابتسام العريض للمدعويين , أن بعض القطرات كانت قد تحررت من سيطرته على الممر , فنزلت دافئة يحضنها قماش مخصوص ,
وبعد العودة تسمر أكثر من ثلاث ساعات , قبل أن يهل أول طالع بحاشيته , اصطنع الابتسامة المنصوح بها , تنبه إلى متابعة الزائر بعينيه , تفاصيل هيئته , كاد يضطرب , ود لو كان أمام مرآة , ليتأكد من حسن اصطناعه لتلك الابتسامة العريضة ,
وصل الثاني والثالث والرابع والخامس , يسبقهم إعلان ترحيب المكلف الأول بالاستقبال ,
كلهم نظروا إليه من نفس الزاوية ,
لكنهم كانوا يبتسمون له ,
عادت إليه ثقته بنفسه, فصار ينحني برأسه قليلا للاستجابة إلى ما يشبه التحية منهم ,
لو لم تمر هذه المرحلة بسلام , لربما كان قد وجد نفسه مطرودا ملوما محسورا , لكن الله ستر , فقد اختير من بين السبعة , ليكون ثالث فتيان التحرك داخل القاعة المغلقة ,
يالله , " حمروا لي وجهي " ,
وانسحب " المعلم " , يشير بيده اليمنى للتأكيد على حسن الانضباط للجو , أثارتني حركة الفتى الأول وهو يرد بالإيجاب على " المعلم " , كدت أضحك من حركاته الأنثوية متوازية مع إيقاع صوته الرخيم , لم أكن أعرف أنه هو نفسه من سيتولى الإشراف على توجيهنا بين الموائد ,
ذكر لي صاحبي , أنه لم ينتبه لشيء , إلا حين فاجأته كف ناعمة تمرر أناملها على مؤخرته , لم يستدر خلفه للتثبت من الحكاية , لكن دهدهة السيد الوزير تبعت خطوه ,
أحس بالمهانة القصوى حين أدرك الموقف الذي حشر فيه ,
كيف يبدي مقاومة ما ؟
رمق الفتى الأول بين رجلين يبادلانه الحديث كأنه منهم , ركز بصره للتحقق , بدا له الفتى كأنه يترنح بين الأيدي المداعبة ,
فجأة , رفع الستار عن فرقة موسيقية من خمسة أفراد معـصوبي العيون , كيف سيعزفون ؟
جاءه الرد سريعا بالشروع في تسوية الأوتار بين العود والكمان , لعلهم يتهيأون لعزف مقطوعة " الأطلس " , كان يعرفها بافتتاح دقة " البندير " مفردة ,
انتهى توزيع الكؤوس التي لم يمسسها شاي , وفي نفسي سؤال عن السوائل التي سيتناولها الحضور الكريم , الأكواب معلومة , قطع حبل تفكيره الفتى الأول , وهو يمد إليه قنينة " الويسكي " :
أنتَ ستتكلف بالخدر على يسار الفرقة , انتبه , كن خفيف الرأس , هاوِدِ الضيوف الكرام , سايِرْهُمْ في نشاطهم , من يدري ؟ ربما تحظى بالقبول والرضاء , فتفتح لك ليلة القدر,
صعدتُ تنهيدة عميقة , امتزجت فيها رغبة في الضحك مرة أخرى من هذا الجسد المخنث في هيئة رجل , برهبة من توجس السوء به في هذا الحفل الموقر , لقد وقعت ,
وذكر لي صاحبي كيف مرت عليه لحظات احتمال تفاهات أحد الشخصيات المرموقة في البلد ,
ود لو أن الأرض ابتلعته , لئلا يتذكر كيف تركه يداعبه من الخلف ,
في البداية , وجد تبريرا في حالة السكر , فقد جرت العادة أن يفقد الشارب المنتشي صوابه , ليأتي ما لا يحتمل , لكنه في النهاية , أيقن أنه وسط شواذ بامتياز ,
قال لي بأنه إلى حد الآن , لا يعرف الفاعل من المفعول , ابتسمت لروايته , لم تنفعكَ حصيلة القواعد , رغم أنك حصلت فيها على شهادة الإجازة ,
بقي صاحبي جديا في حكيه عن تلك الليلة , وأضاف , كانوا يتقنون رقصة الكلاب
.
محمد المهدي السقال
المغرب
- Commentaires textes : Écrire
عام الكل 1576;
عام الكلب
..... وقـال أحــد الـمـارة : إنـه شـاهد الـسـيـارة الـرمـاديــة الـداكـنــة , تـعـبـر الـدرب بـسـرعــة جـنـونـيــة فـي اتـجـاه نـاصـيـة مـقـبـرة الـشـهـداء , بـعـد مـا تـرد د أنـها غـابـت فـي الاتـجـاه الـمـعـاكــس صـوب قـصـر الـبـلـديــة …..
غـيـر أنـه لـم يـنـف أن تـكـون عـلامـتـهـا حـمـراء بـاهـتــة , كـمـا دار علـى ألـسـنـة الـسـكـان الـذيـن عـايـنـوا الـواقـعـة .....
وقـالـت امــرأة تــابـعـت دخــول الـسـيـارة إلى الـحـي , إنـها شــهــدت نـزول رجــلــيــن أنـيـقـيـن , يـرتـديـان لـبـاسـا أسـود...تـوقـفـا عـنـد عـتـبـة بـيـت الـحـاجـة* الـضـاويـة *, حـسـبـتهـمـا ضـيـفـيـن عـلـيـهـا , لـولا طـرقـهـمـا الـبـاب بــعـنـف , تـبـادلا نـظــرات حـــادة ...
زعـــزعــا الـمـقـبـض مـن جـهــة الـيـســار , ثـم اقـتـحــمـا الــدار … أخــرجــا ابـنـهـا * السـي عـبـد الـسـلام* فـي لـبـاس نـومــه , مـصـفـد الـمعـصـمـيـن , قـبـل أن يــلقــيـا بــه فـي الـسـيـارة مـن الـخـلـف .....
غـيـر أن الـمـرأة نـفـسـهـا لـم تـؤكــد مـا شـاع , حـولعـلامـات ضـرب مـبـرح تـعـرض لـه فـي الـداخــل ....
وقــد أجـمـع مـن حـضـر و مـن لـم يـحـضــر , عـلى وقـوع الـحـدث فـي غـبـش فـجـر عـيـد الأضـحـى , والـذي صـادف أوائــل الـخـريـف مـن عـام الـكـلـب , سـنـة انـتـشــار وبـاء الـسـعـار فـي مـنـطـقـة الـشــمـال.....
قـبـل عـودتــه إلى أرض الـوطــن , كـان * الـسـي عـبـد الـسـلام * قــد نـجـح فـي تـسـويــة وضـعـيـة الانـتـمـاء الإداري لـمـوطــن الـغـربـة , بـعـد عـشـر سـنـوات مـن اللجـوء الـسـيـاسـي, و كـانـت *بـريـجـيـت*فـي الـواقــع , ورقـتـه الـرابـحـة , إذ مـكـنـتــه مـن انـتـشــال ذلــكالـحـق , بـعـد اعـتـراف الـكـنـيـسـة بـزواجـهـمـا.......
لـم يـكـن كـثـيــر الـتـوجــس مـن تـبـعـات قـبـول الـدعـوة إلى الـرجـوع , بـوســاطــة عـلـنـيــة تـداولـتـهـا بـعـض الـصـحـف الـوطـنـيـة , مـازال يـحـتـفـظ بـنـسـخـة الـعـفـو الـمـوقـعـة عـلـى بـيـاض , آمـنـة بـيـن حـضـن *بـريـجـيـت*, كـانـت صـاحـبـة الـفـكـرة , رغـم أنـه حـاول إقـنـاعـهـا بـنـزع الـخـوف هـذه الـمـرة , ألـم يـمـثـلـه أقـرب إخـوان الأمـس؟
حـطـت الـطـائـرة بالـمـطـار و اللـيـل فـي هـزيـعـه الأخـيــر, صـادف أذان الـفـجـر انـشـغـالــه بـالـتـفـكـيـر فـي صــلاة ركـعـتـيـن , شــكــرا لـهــذه الـعـودة الـمـيـمـونــة .
كـان ضـمـن الـكـوكـبـةالأخـيــرة مـن الـنـازلـيــن , أمـهـلــه الـتـدافــع فــرصــة تـمـيــيـز انــعــكــاس الأضــواء فـوق أرضـيــة الـمطـار , كـثـيـرةالـبـلـل رغـم تــوقــف الـمــطــر , لـم يـكـن أحـد يـنـتـظــره , فــوجـئ بـغـيـاب أمــه و أخـتــيــه , ربـمـا لـم تـصـلـهــن بـرقـيـتــه الـتـي حـدد فـيـهـا زمـكــان وصــولــه , اقـتـرب مـن بـوابــة الـخـروج , قــرأ :
مـطـار * ســلا * يـرحـب بـكـم .
انــدهــش , كـانـت وجـهـتــه * مـطـار أنـكـاد وجــدة*.
وبـدأت تـتـنـاســل الأسـئـلـة .... لـم يـقـطـع حـبـل تـفـكـيـره سـوى مـطـالـبـة رجــل الأمــن بوثـائـق هـويـتــه :
+ مـغـربـي بـجـواز سـويـسـري ؟ كــانـت الــغــيـبـة طــويــلـة ؟
+عــشــر سـنـوات ... كـنــت فـي الـمـنـفـى.... هــل سـنـمـتـطــي طــائــرة أخــرى إلـى * وجــدة * ؟صــور فـي إحــدى رسـائـلـه لأخــتــه , حــجـم اضـطـراب الـرجــلبـبــذلــتــه الـزرقــاء , شــعــرت بـالـعـطـف عـلـيـه , و هــو يـزيــغبـبـصــره يـمـنـة ويـسـرة , كـأنــه نــدم عـلـى الـدخـول فـي الـسـؤالات , ثـم بـادره بـالـتـرحيـب به فـي بـلاده .....
+ أنــت فـي الـعـاصـمـة.
الـبـهـو جـمـيـل عـلى صـغـره , تـوزعــت جـنـبـاتـه صــور رسـمـيــة و تـشـكـيـلـيـة وفـولـكـلــوريــة , بـعـضــهـا يـثـيــر فـي الـنـفـس لـحـظــات الـتـقـزز مـن الـمـاضـي , وبـعـضــهـا الآخــر يـبـعــث عـلى الارتـيـاح بـلا ألــوان , تـوجــه نـحـو مـكـتـب الـشـركــة الـتـي أقـلـتــه , لاأحــد ……. انـتـابــه إحـسـاس بالـمـرارة…… تـلـفــت إلى الـخـلـف , نـفـس الـوجـهـيـن , مـلامـحـهـمـا مـحـفـورة فـي الـذاكــرة , حـاول اسـتـبـعـاد الـتـصـور, لـولا أنـهـمـا بـادراه بـالـتـحـيـة بـاسـمــه :
+ * الـسـي عـبـد الـسـلام * , مـرحــبـا بـك , مـن فـضـلـك , نـريـداسـتـكـمـال بـعـض الإجراءات.............
بـدا عـلـيـهـما الـوقـار مـن لـيـن الـخـطـاب , اعـتـبـرت الأمــرطـبـيـعـيـا فـي مـثـل هـذه الـمـواقــف , لـكـنـنـي شـعـرت بضـيـق شـديــد , حـيـن وجـدتـنـي مـتـوسـطـا مـنـكـبـيـهـمـا الـعـريـضـيـن.... مـا أشـبــه الأمــس بـالـيــوم...
+ غـدا إن شــاء الله , سـتـكـون بـيـن أهـلـك ....
+ إن شـاء الله....
مـا كـادت الـسـيـارة أن تـبـارح الـمـوقـف , حـتــى بـدأ الاسـتـجـواب , بـكـل اللــطــف , أخــذا يـتـنـاوبـان عــلــي , لــم يــكــن فـي أسـئـلـتـهـمـا أدنــى إحـــراج , بـل إن كـثـيـرا مـنـهـا كـان مـعـلـوماسـلـفـا , ضـمـن أدبـيــات الاسـتـنـطــاق الـبـولـيـســي . تـقـاطـعـت جـل الـتـدخــلات , تـحـت عـنـوان الـخـلـيـة الـنـائـمـة , كـانــا يـبـحـثـان عـن حـجـم اسـتـمـرار الـعـلاقــة فـي الـخـارج بـيـن رفـاق الـدرب الـمـضــيء , ابـتـسـم مـن عـلـى يـمـيـنـي قـائـلا :
+ نـريـد جـمـع الـشـمـل , سـوف يـتـم الـتـفـاوض مـع الـبـاقـيـن.....
حـركـت شـفـتــي إيـحـاءا بـالـرد عـلـى الابـتـسـامـة... لا يـمـنـع خـفـوت الـضـوء داخــل الـسـيـارة مـن تـلـمـس الـقـسـمـات , يـسـاعـدعلـى ذلـك وقــع الـتـمـاوج فـي الأصــوات , أمـا الـطـريـق , فـلا تـبـدو إلا مـوغـلــة فـي الـتـيــه , يـزيـد مـن وحـشـتــهــا رذاذ مـطـريـغـالـب مـاسـحـات الـزجــاج الـمـتـثــاقـلـة,
أخـذت الأصـــواتتـغــور شـيـئـا فـشـيـئـا , لا أذكــر أنـنـي نـبــســت بـكـلـمـات خــلالالـمـسـار بـيـن الـمـطـار و الـعـاصــمــة.
كـانـت ضـيـافـة الـمـخـزن قـصـيـرة , بـقـيـة لـيـل ولـيـلـتـانبـنـهـارهـمـا الـمـظـلـم فـي غـرفـة الاسـتـنـطـاق , تـعـاقـب عـلـي خـلالـهــا رجــال أشـداء , أعــلـى رتـبـة فـي الصـنـف والـتـكـويــن , وأكـثــر مـهـارة فـي جـر اللــســان , كـلـمـا تـسـمـعــت نـبـراتـهـم و هـي تـخـتـرق الـجـسـد قـبـل الأذن , شـعـرت بـمـسـتـوى الاحـتــرافـيـة الـتـي بـلـغـتـهـا شـبـكــة الاسـتـخـبـارات فـي بـلـدنــا..... كـانـوا أشـبــه بـأساتـذة الـجـامـعـات , أو هـم مـنـهـم , مـنـهـجـيـة دقـيـقـة أقـرب إلـى حـواريـات * سـقـراط *, تـكـسـوهـا ألــفــاظ بـراقــة مـنمـعـجـم زمـن الـعـولـمـة والديـمـقـراطـيـة و أشـيـاء أخــرى ..... وصـدقـوا مـا وعـدوا بــه , لـم يـطـل بـي الـمـقـام بـيـنـهـم , تـكـلـفـوا عـنـاء اصـطـحـابـي إلـى الـمـحـطــة , و لـم يـبـارحـونــي إلا بـعـدمـا نـزعـوا مـنـي وثـائـقـي بـدعـوى الإجـراءات الـروتـيـنـيـة , وضـعـونـي بـيـن مـنـكـبـي مـقـعـد فـي مـقـدمــة الـحـافـلـة , ثـم وقـفـوا تـحـت الـنـافـذة يـلـوحـون لـي كـمـا يـودع الـقـريـب ....
تـعـالــت الـنـداءات .... وجـدة ... وجـدة .... وجـدة ... فـتـحـركــت بـداخـلـي لـيــالــي* وجـدة *, حـضـرت صـورة أمـي , أطـلــت مـن شـرفـة اغـتـراب عـشـر سـنـوات , نـظـرات وداعـــهــا جـامـدة الـدمـع فـي الـحـدقـتـيـن , لـم تـكـن تـلـك أول مــرة تـشـيـعـنـي فـيهـا , لـكـنـهـا كـانـت الأكـثـر إيـلامــا.....
بـلـغــنــي عـن أحـدالأخـوال , أن أمـي خـرجـت إلـى الـدرب , وأخــذت تـدعــو عـلـى مـن كــان الـحـيـلـة و الـسـبـب .... اللــه يـأخـــذ فـيـهـم الـحـق....
انـطـلـقـت الـحـافـلـة مـع بـدايــة إمـطـار مـتـقـطـع , عـيـن عـلـى الـطـريـق وعـيـن عـلـى أمـي بـانـتـظـاري مـنـذ عـشـر سـنـوات , لـيـتـهـا كـانـت تـعـلـم بـقـدومـي , تـعـثــر الـمـحـرك فـخـض الـركـاب , قـال مـسـاعــد الـسـائـق : إنـه مـازال بـحـاجـةإلـى تـسـخـيـن فـي هـذا الـجـو الـبـارد .....
مـحـمـد الـمـهـدي الـسـقـال
الـمـغـرب / الـقـنـيطـرة
..... وقـال أحــد الـمـارة : إنـه شـاهد الـسـيـارة الـرمـاديــة الـداكـنــة , تـعـبـر الـدرب بـسـرعــة جـنـونـيــة فـي اتـجـاه نـاصـيـة مـقـبـرة الـشـهـداء , بـعـد مـا تـرد د أنـها غـابـت فـي الاتـجـاه الـمـعـاكــس صـوب قـصـر الـبـلـديــة …..
غـيـر أنـه لـم يـنـف أن تـكـون عـلامـتـهـا حـمـراء بـاهـتــة , كـمـا دار علـى ألـسـنـة الـسـكـان الـذيـن عـايـنـوا الـواقـعـة .....
وقـالـت امــرأة تــابـعـت دخــول الـسـيـارة إلى الـحـي , إنـها شــهــدت نـزول رجــلــيــن أنـيـقـيـن , يـرتـديـان لـبـاسـا أسـود...تـوقـفـا عـنـد عـتـبـة بـيـت الـحـاجـة* الـضـاويـة *, حـسـبـتهـمـا ضـيـفـيـن عـلـيـهـا , لـولا طـرقـهـمـا الـبـاب بــعـنـف , تـبـادلا نـظــرات حـــادة ...
زعـــزعــا الـمـقـبـض مـن جـهــة الـيـســار , ثـم اقـتـحــمـا الــدار … أخــرجــا ابـنـهـا * السـي عـبـد الـسـلام* فـي لـبـاس نـومــه , مـصـفـد الـمعـصـمـيـن , قـبـل أن يــلقــيـا بــه فـي الـسـيـارة مـن الـخـلـف .....
غـيـر أن الـمـرأة نـفـسـهـا لـم تـؤكــد مـا شـاع , حـولعـلامـات ضـرب مـبـرح تـعـرض لـه فـي الـداخــل ....
وقــد أجـمـع مـن حـضـر و مـن لـم يـحـضــر , عـلى وقـوع الـحـدث فـي غـبـش فـجـر عـيـد الأضـحـى , والـذي صـادف أوائــل الـخـريـف مـن عـام الـكـلـب , سـنـة انـتـشــار وبـاء الـسـعـار فـي مـنـطـقـة الـشــمـال.....
قـبـل عـودتــه إلى أرض الـوطــن , كـان * الـسـي عـبـد الـسـلام * قــد نـجـح فـي تـسـويــة وضـعـيـة الانـتـمـاء الإداري لـمـوطــن الـغـربـة , بـعـد عـشـر سـنـوات مـن اللجـوء الـسـيـاسـي, و كـانـت *بـريـجـيـت*فـي الـواقــع , ورقـتـه الـرابـحـة , إذ مـكـنـتــه مـن انـتـشــال ذلــكالـحـق , بـعـد اعـتـراف الـكـنـيـسـة بـزواجـهـمـا.......
لـم يـكـن كـثـيــر الـتـوجــس مـن تـبـعـات قـبـول الـدعـوة إلى الـرجـوع , بـوســاطــة عـلـنـيــة تـداولـتـهـا بـعـض الـصـحـف الـوطـنـيـة , مـازال يـحـتـفـظ بـنـسـخـة الـعـفـو الـمـوقـعـة عـلـى بـيـاض , آمـنـة بـيـن حـضـن *بـريـجـيـت*, كـانـت صـاحـبـة الـفـكـرة , رغـم أنـه حـاول إقـنـاعـهـا بـنـزع الـخـوف هـذه الـمـرة , ألـم يـمـثـلـه أقـرب إخـوان الأمـس؟
حـطـت الـطـائـرة بالـمـطـار و اللـيـل فـي هـزيـعـه الأخـيــر, صـادف أذان الـفـجـر انـشـغـالــه بـالـتـفـكـيـر فـي صــلاة ركـعـتـيـن , شــكــرا لـهــذه الـعـودة الـمـيـمـونــة .
كـان ضـمـن الـكـوكـبـةالأخـيــرة مـن الـنـازلـيــن , أمـهـلــه الـتـدافــع فــرصــة تـمـيــيـز انــعــكــاس الأضــواء فـوق أرضـيــة الـمطـار , كـثـيـرةالـبـلـل رغـم تــوقــف الـمــطــر , لـم يـكـن أحـد يـنـتـظــره , فــوجـئ بـغـيـاب أمــه و أخـتــيــه , ربـمـا لـم تـصـلـهــن بـرقـيـتــه الـتـي حـدد فـيـهـا زمـكــان وصــولــه , اقـتـرب مـن بـوابــة الـخـروج , قــرأ :
مـطـار * ســلا * يـرحـب بـكـم .
انــدهــش , كـانـت وجـهـتــه * مـطـار أنـكـاد وجــدة*.
وبـدأت تـتـنـاســل الأسـئـلـة .... لـم يـقـطـع حـبـل تـفـكـيـره سـوى مـطـالـبـة رجــل الأمــن بوثـائـق هـويـتــه :
+ مـغـربـي بـجـواز سـويـسـري ؟ كــانـت الــغــيـبـة طــويــلـة ؟
+عــشــر سـنـوات ... كـنــت فـي الـمـنـفـى.... هــل سـنـمـتـطــي طــائــرة أخــرى إلـى * وجــدة * ؟صــور فـي إحــدى رسـائـلـه لأخــتــه , حــجـم اضـطـراب الـرجــلبـبــذلــتــه الـزرقــاء , شــعــرت بـالـعـطـف عـلـيـه , و هــو يـزيــغبـبـصــره يـمـنـة ويـسـرة , كـأنــه نــدم عـلـى الـدخـول فـي الـسـؤالات , ثـم بـادره بـالـتـرحيـب به فـي بـلاده .....
+ أنــت فـي الـعـاصـمـة.
الـبـهـو جـمـيـل عـلى صـغـره , تـوزعــت جـنـبـاتـه صــور رسـمـيــة و تـشـكـيـلـيـة وفـولـكـلــوريــة , بـعـضــهـا يـثـيــر فـي الـنـفـس لـحـظــات الـتـقـزز مـن الـمـاضـي , وبـعـضــهـا الآخــر يـبـعــث عـلى الارتـيـاح بـلا ألــوان , تـوجــه نـحـو مـكـتـب الـشـركــة الـتـي أقـلـتــه , لاأحــد ……. انـتـابــه إحـسـاس بالـمـرارة…… تـلـفــت إلى الـخـلـف , نـفـس الـوجـهـيـن , مـلامـحـهـمـا مـحـفـورة فـي الـذاكــرة , حـاول اسـتـبـعـاد الـتـصـور, لـولا أنـهـمـا بـادراه بـالـتـحـيـة بـاسـمــه :
+ * الـسـي عـبـد الـسـلام * , مـرحــبـا بـك , مـن فـضـلـك , نـريـداسـتـكـمـال بـعـض الإجراءات.............
بـدا عـلـيـهـما الـوقـار مـن لـيـن الـخـطـاب , اعـتـبـرت الأمــرطـبـيـعـيـا فـي مـثـل هـذه الـمـواقــف , لـكـنـنـي شـعـرت بضـيـق شـديــد , حـيـن وجـدتـنـي مـتـوسـطـا مـنـكـبـيـهـمـا الـعـريـضـيـن.... مـا أشـبــه الأمــس بـالـيــوم...
+ غـدا إن شــاء الله , سـتـكـون بـيـن أهـلـك ....
+ إن شـاء الله....
مـا كـادت الـسـيـارة أن تـبـارح الـمـوقـف , حـتــى بـدأ الاسـتـجـواب , بـكـل اللــطــف , أخــذا يـتـنـاوبـان عــلــي , لــم يــكــن فـي أسـئـلـتـهـمـا أدنــى إحـــراج , بـل إن كـثـيـرا مـنـهـا كـان مـعـلـوماسـلـفـا , ضـمـن أدبـيــات الاسـتـنـطــاق الـبـولـيـســي . تـقـاطـعـت جـل الـتـدخــلات , تـحـت عـنـوان الـخـلـيـة الـنـائـمـة , كـانــا يـبـحـثـان عـن حـجـم اسـتـمـرار الـعـلاقــة فـي الـخـارج بـيـن رفـاق الـدرب الـمـضــيء , ابـتـسـم مـن عـلـى يـمـيـنـي قـائـلا :
+ نـريـد جـمـع الـشـمـل , سـوف يـتـم الـتـفـاوض مـع الـبـاقـيـن.....
حـركـت شـفـتــي إيـحـاءا بـالـرد عـلـى الابـتـسـامـة... لا يـمـنـع خـفـوت الـضـوء داخــل الـسـيـارة مـن تـلـمـس الـقـسـمـات , يـسـاعـدعلـى ذلـك وقــع الـتـمـاوج فـي الأصــوات , أمـا الـطـريـق , فـلا تـبـدو إلا مـوغـلــة فـي الـتـيــه , يـزيـد مـن وحـشـتــهــا رذاذ مـطـريـغـالـب مـاسـحـات الـزجــاج الـمـتـثــاقـلـة,
أخـذت الأصـــواتتـغــور شـيـئـا فـشـيـئـا , لا أذكــر أنـنـي نـبــســت بـكـلـمـات خــلالالـمـسـار بـيـن الـمـطـار و الـعـاصــمــة.
كـانـت ضـيـافـة الـمـخـزن قـصـيـرة , بـقـيـة لـيـل ولـيـلـتـانبـنـهـارهـمـا الـمـظـلـم فـي غـرفـة الاسـتـنـطـاق , تـعـاقـب عـلـي خـلالـهــا رجــال أشـداء , أعــلـى رتـبـة فـي الصـنـف والـتـكـويــن , وأكـثــر مـهـارة فـي جـر اللــســان , كـلـمـا تـسـمـعــت نـبـراتـهـم و هـي تـخـتـرق الـجـسـد قـبـل الأذن , شـعـرت بـمـسـتـوى الاحـتــرافـيـة الـتـي بـلـغـتـهـا شـبـكــة الاسـتـخـبـارات فـي بـلـدنــا..... كـانـوا أشـبــه بـأساتـذة الـجـامـعـات , أو هـم مـنـهـم , مـنـهـجـيـة دقـيـقـة أقـرب إلـى حـواريـات * سـقـراط *, تـكـسـوهـا ألــفــاظ بـراقــة مـنمـعـجـم زمـن الـعـولـمـة والديـمـقـراطـيـة و أشـيـاء أخــرى ..... وصـدقـوا مـا وعـدوا بــه , لـم يـطـل بـي الـمـقـام بـيـنـهـم , تـكـلـفـوا عـنـاء اصـطـحـابـي إلـى الـمـحـطــة , و لـم يـبـارحـونــي إلا بـعـدمـا نـزعـوا مـنـي وثـائـقـي بـدعـوى الإجـراءات الـروتـيـنـيـة , وضـعـونـي بـيـن مـنـكـبـي مـقـعـد فـي مـقـدمــة الـحـافـلـة , ثـم وقـفـوا تـحـت الـنـافـذة يـلـوحـون لـي كـمـا يـودع الـقـريـب ....
تـعـالــت الـنـداءات .... وجـدة ... وجـدة .... وجـدة ... فـتـحـركــت بـداخـلـي لـيــالــي* وجـدة *, حـضـرت صـورة أمـي , أطـلــت مـن شـرفـة اغـتـراب عـشـر سـنـوات , نـظـرات وداعـــهــا جـامـدة الـدمـع فـي الـحـدقـتـيـن , لـم تـكـن تـلـك أول مــرة تـشـيـعـنـي فـيهـا , لـكـنـهـا كـانـت الأكـثـر إيـلامــا.....
بـلـغــنــي عـن أحـدالأخـوال , أن أمـي خـرجـت إلـى الـدرب , وأخــذت تـدعــو عـلـى مـن كــان الـحـيـلـة و الـسـبـب .... اللــه يـأخـــذ فـيـهـم الـحـق....
انـطـلـقـت الـحـافـلـة مـع بـدايــة إمـطـار مـتـقـطـع , عـيـن عـلـى الـطـريـق وعـيـن عـلـى أمـي بـانـتـظـاري مـنـذ عـشـر سـنـوات , لـيـتـهـا كـانـت تـعـلـم بـقـدومـي , تـعـثــر الـمـحـرك فـخـض الـركـاب , قـال مـسـاعــد الـسـائـق : إنـه مـازال بـحـاجـةإلـى تـسـخـيـن فـي هـذا الـجـو الـبـارد .....
مـحـمـد الـمـهـدي الـسـقـال
الـمـغـرب / الـقـنـيطـرة
- Commentaires textes : Écrire
العر 1575;فة
قصة قصيرة
العرافة
انتبهتْ " مليكة " إلى عودة طائر" الجاوش", لم يُحلِّق بين أركان الغرفة قبل الانسحاب كعادته من غير استئذان ,
حطَّ فوق أعلى رفوف المكتبة , من غير أن يستقر به المقام , يقفز متحركاً في كل الاتجاهات ,
همدتْ تحاول قطع أنفاسها , متمنيةً لو أنه يمكث أطول ,
انتفض , حدق في وجهها كأنه يرغب في السؤال عن شيء ضاع منه , بذلتُ جهدا خارقاً في محاولة التظاهر بالسكون , علَّهُ يطمئن إليَّ , ثم اختفى في رمشة عين , تاركاً خلفه منحنى ظلي ثابتاً جهة اليسار , و صوت رفرفة جناحيه ينحل إلى ما يشبه الهواء البارد في يوم قائظ ,
للريش رائحة يذكرها أنفي من بقايا معاشرة الطيور الحبيسة في الأقفاص , تمتعض حاسة الشم , لكننا نُصرُّ على الاحتفاظ بها سجينة أمام عيوننا , أول مرة سمعت عن شيء اسمه الحرية , كان من خلال فرجتنا الطفولية على دوخة ذلك العصفور الحبيس خلف القضبان ,
بعد خمس سنوات , سيحدثنا معلم العربية عن الرفق بالحيوان , وكأنه كان معنا , سيمثل بالطائر في القفص , كم شعرتُ بالذنب , مات العصفور بعد يومين , رغم اهتمامنا بأكله وشربه ,
قامت " مليكة " في اتجاه موطئ قدميه بين الأسماء المغبرة , " طبقات الشعراء " , ترك عليها أثراً من برازه نقطاً سوداء , مازالت طرية , أدنى محاولة لتخليص " ابن قتيبة " مما أصابه , لن تزيد إلا الطين بلة , ما أسوأ حظَّه , طبقات أخرى بجانبه , كانت أحوج لمثل هذا الخروج النديِّ ,
تركت الكتاب كما تركه الطائر , وعادت لاستئناف كتابة القصة المشؤومة , ما زالت تتأبى على الانتهاء , تعبتْ من معاودة بنائها , لتبدو أكثر واقعية , تقف عند رد فعل الشخصية المحورية , فلا تسعفها العبارات الأقل حدة ,
مضى عليها أسبوع , وهي تفكر في لغة موحية تحتمل رمزيتها أكثر من تأويل , حين يتعلق الأمر بالكتابة عن حكاية من حكايا السلطة في هذه البلاد الغريبة بحكامها , تجد نفسها محاصرة بتخوف لا إرادي من الوقوع في شرك الصياد ,
تتحرج من التصريح كما تتحرج من التلميح , بالرغم من علمها ببلادة حجاب الحاكم , لم تفلح في التخلص من توجس الإيقاع بها , وهي تحيل على لا مبالاة الحاكم المنشغل عن الأمة بما في بطن بعله المصون ,
و إذا لم يكن ذكرا ؟
إنه ذكر يا سيدي .
انتزعها الحاجب من فراشها للمثول بين يديه , في عز الليل , تاركة خلفها زوجاً لم يحرك ساكناً , بل كان يستعجل اصطحابها للرسول ,
بحكم شهرتها كعرَّافة تحققت بعض نبوءاتها , خمَّنتْ سبب الاستقدام , وأصابتْ هذه المرة أيضا , سوف تُسأل عن الراقد في بطن زوجة الحاكم , وسوف تجيب بلا أدنى تردد أن المولود ذكر ,
و إذا لم يكن ذكرا ؟
إنه ذكر يا سيدي .
لكنها قبل الانصراف محملة بأعطية الألف دينار المعهودة , اصطدمت بوجهها في المرآة , رأته كالحاً رغم الأنوار المشعة في القصر , حدثتها نفسها بالعودة إلى الحاكم , لتعلن بين يديه عن رؤية غير الذي صرحت به ,
أرى يا سيدي أنها ستضع أنثى ,
بلعتْ ريقها تتلقَّفُها الأيدي نحو مخرج دهليز يفضي إلى ساحة فسيحة , ومنها إلى البيت عبر ممرَّاتٍ لم تستبن إلى الآن مُنعرجاتها ,
تبًّا لهذه الحكاية اللعينة , ألقتْ " مليكة " بالمسودة في سلَّة المهملات , تطلعت إلى النافذة , هل سيهل الطائر ثانية ؟ تمنت عودته ليبصق في وجهها هذه المرة .
********
محمد المهدي السقال
المغرب
العرافة
انتبهتْ " مليكة " إلى عودة طائر" الجاوش", لم يُحلِّق بين أركان الغرفة قبل الانسحاب كعادته من غير استئذان ,
حطَّ فوق أعلى رفوف المكتبة , من غير أن يستقر به المقام , يقفز متحركاً في كل الاتجاهات ,
همدتْ تحاول قطع أنفاسها , متمنيةً لو أنه يمكث أطول ,
انتفض , حدق في وجهها كأنه يرغب في السؤال عن شيء ضاع منه , بذلتُ جهدا خارقاً في محاولة التظاهر بالسكون , علَّهُ يطمئن إليَّ , ثم اختفى في رمشة عين , تاركاً خلفه منحنى ظلي ثابتاً جهة اليسار , و صوت رفرفة جناحيه ينحل إلى ما يشبه الهواء البارد في يوم قائظ ,
للريش رائحة يذكرها أنفي من بقايا معاشرة الطيور الحبيسة في الأقفاص , تمتعض حاسة الشم , لكننا نُصرُّ على الاحتفاظ بها سجينة أمام عيوننا , أول مرة سمعت عن شيء اسمه الحرية , كان من خلال فرجتنا الطفولية على دوخة ذلك العصفور الحبيس خلف القضبان ,
بعد خمس سنوات , سيحدثنا معلم العربية عن الرفق بالحيوان , وكأنه كان معنا , سيمثل بالطائر في القفص , كم شعرتُ بالذنب , مات العصفور بعد يومين , رغم اهتمامنا بأكله وشربه ,
قامت " مليكة " في اتجاه موطئ قدميه بين الأسماء المغبرة , " طبقات الشعراء " , ترك عليها أثراً من برازه نقطاً سوداء , مازالت طرية , أدنى محاولة لتخليص " ابن قتيبة " مما أصابه , لن تزيد إلا الطين بلة , ما أسوأ حظَّه , طبقات أخرى بجانبه , كانت أحوج لمثل هذا الخروج النديِّ ,
تركت الكتاب كما تركه الطائر , وعادت لاستئناف كتابة القصة المشؤومة , ما زالت تتأبى على الانتهاء , تعبتْ من معاودة بنائها , لتبدو أكثر واقعية , تقف عند رد فعل الشخصية المحورية , فلا تسعفها العبارات الأقل حدة ,
مضى عليها أسبوع , وهي تفكر في لغة موحية تحتمل رمزيتها أكثر من تأويل , حين يتعلق الأمر بالكتابة عن حكاية من حكايا السلطة في هذه البلاد الغريبة بحكامها , تجد نفسها محاصرة بتخوف لا إرادي من الوقوع في شرك الصياد ,
تتحرج من التصريح كما تتحرج من التلميح , بالرغم من علمها ببلادة حجاب الحاكم , لم تفلح في التخلص من توجس الإيقاع بها , وهي تحيل على لا مبالاة الحاكم المنشغل عن الأمة بما في بطن بعله المصون ,
و إذا لم يكن ذكرا ؟
إنه ذكر يا سيدي .
انتزعها الحاجب من فراشها للمثول بين يديه , في عز الليل , تاركة خلفها زوجاً لم يحرك ساكناً , بل كان يستعجل اصطحابها للرسول ,
بحكم شهرتها كعرَّافة تحققت بعض نبوءاتها , خمَّنتْ سبب الاستقدام , وأصابتْ هذه المرة أيضا , سوف تُسأل عن الراقد في بطن زوجة الحاكم , وسوف تجيب بلا أدنى تردد أن المولود ذكر ,
و إذا لم يكن ذكرا ؟
إنه ذكر يا سيدي .
لكنها قبل الانصراف محملة بأعطية الألف دينار المعهودة , اصطدمت بوجهها في المرآة , رأته كالحاً رغم الأنوار المشعة في القصر , حدثتها نفسها بالعودة إلى الحاكم , لتعلن بين يديه عن رؤية غير الذي صرحت به ,
أرى يا سيدي أنها ستضع أنثى ,
بلعتْ ريقها تتلقَّفُها الأيدي نحو مخرج دهليز يفضي إلى ساحة فسيحة , ومنها إلى البيت عبر ممرَّاتٍ لم تستبن إلى الآن مُنعرجاتها ,
تبًّا لهذه الحكاية اللعينة , ألقتْ " مليكة " بالمسودة في سلَّة المهملات , تطلعت إلى النافذة , هل سيهل الطائر ثانية ؟ تمنت عودته ليبصق في وجهها هذه المرة .
********
محمد المهدي السقال
المغرب
- Commentaires textes : Écrire