sekrinya
العـ 1600;را& #1601;
قـصـة قـصـيـرة
العــراف
محمد المهدي السقال
انشغل سعادة الوزير برؤية الشمس آخذة في الأفول خلف الواجهة الزجاجية , فلم ينتبه إلى السطر ما قبل قبل الأخير في كلمته العصماء , مع ذلك , انهالت التصفيقات من الزوايا بنظام إيقاعي بديع , سمع أباه يتحدث بسخرية , عن لقاءات المسؤولين مع الشعب في مواسم الاجتماعات تحت قباب قصور البلديات , تُكْترى الأكف كما تُكترى الوجوه, وتبقى دار لقمان على حالها , عين السيد الوزير على طائر يصارع من أجل تثبيت قدميه , وأخرى على السطرين المغفلين , بقيت في نفسه عبارات مدبجة بإحكام , تتعرض بالأرقام لما تحقق في عهده على رأس وزارة الصيد البري, تردد كاتبه الخاص و أمين سره اللغوي كثيرا , قبل أن يجد التعبيرات المناسبة لما قصد إبلاغه بالزور والبهتان , كأن السماء كانت مفتوحة , فاستجابت لرفضه الضمني كتابة ذلك السطر ,
وغاب سعادة الوزير مفكرا فيما ضاع منه , لم تنبهه سوى إيماءة رئيس الديوان , للوقوف بالتحية أمام الجمع , اضطر للاتكاء على يمينه حذر الظهور بحقيقة عجزه , بينما زادت الأيدي في مقارعة بعضها في وجه سعادة الوزير , كانت يداه تحاولان إسناد قامته المتعبة لحافة المكتب العريض , وبينما هو كذلك , إذا برجل يسعى نحوه متسللا بين الصفوف , توقف أمامه ,
و قبل أن يباغثه الحرس الإداري , لفظ من فمه بصقة لزجة , أرست على خده الأيسر , ثم أخذت في التحلل أخدودا إلى ضفاف الأنف المعقوف ,
ارتمى عليه حارسان بلباسهما المدني الأنيق , سُمِع تمزُّق لم تُعرف جهته, حمَلا الرجل لا تلامس أرجلُه الأرض , و همَّا بالاختفاء به عن العيون , لولا تدخل سعادة الوزير ,
حكى لي من حضر , أن سعادته استدرك الحارسين , بعد التمكن من التخلص بالكاد من لزوجة القذيفة ,
عم صمت رهيب لم يعرف الناس له مثيلا ,
كل العيون تسمرت حول شبح السيد الوزير , في انتظار ما سيقوله, ما سيفعله,
قلت لصاحبي : لا تقل لي بأنه صفح عن الرجل على طريقة البابا ,
نعم ,
أُنزل الرجل إلى الأرض بإشارة منه , استقدمه إليه , تردد الرجل وحالة الهلع مازالت متمكنة منه , وكَزه أحد الحارسين أو هما معا, لأن الدفعة أوقعته بين يدي الوزير , تراجع بالكاد قليلا :
لا يلمسه أحد , أنا عفوت عنه ,
عادت التصفيقات مدوية من نفس الأركان , وعاد الناس إلى مقاعدهم بعدما كانوا على وشك الخروج ,
قلت لصاحبي :
لست عرَّافاً , لكني أستطيع تصور الباقي , فقد حدث لغيره من السادة الوزراء ما يندى له الجبين , حين كان يستعد لانتخابات المواسم الفارطة,
هل تقصد أنه تعرض للبصق على وجهه ؟
لا , كان الأمر أهون , تعرض سيادته للقذف بالطماطم الهارية في طريقه إلى " سوق البقر" *, أصيبت ملابسه الأنيقة بوابل منها , دون اختراقها جسده , لكنه ظل ثابتا يصطنع ابتسامة عريضة , فيما بعد , قال لحواريه : حتى الأنبياء تعرضوا لإيذاء العوام من الهوام .
وحتى لا يسألني أكثر عن تتمة حكاية السيد الوزير و ما وقع له من البهدلة في بلاد البوغاز , استدركته بالسؤال "
هل دشن الوزير قبل خطبته مشروعا في الهواء الطلق ؟
نعم ,
هل كانت ساحة القرية مرتعا للأكل والشراب , داخلها مهزوز و خارجها مكنوز؟
نعم ,
وهل كانت كلمة سعادة الوزير محصورة في مناسبة قرب الانتخابات ؟
نعم ,
ولم يتمالك صاحبي نفسه , لينتظر ما أوحت لي به الحادثة ,
كيف عرفت كل ذلك ؟
و أستطيع أيضا التنبؤ بما سيصير ,
سيعود السيد الوزير إلى القرية مترشحا عن جماعة " بني خوين ",
وسيفوز بمقعدين لبر الأمان , قبل تسليم مفاتيح الوزارة لمن يليه ,
وهكذا دواليك ,
أطرق صاحبي مسندا جبهته على رؤوس الأصابع المضطربة , وقال سائلا:
هل عرفت صاحبنا الوزير ؟
أجبته سائلا بدون أدنى تردد :
وهل يخفى القمر ؟
قال :
لا حول ولا قوة إلا بالله , في القرن الواحد والعشرين ؟
محمد المهدي السقال
* " سوق البقر " ساحة عامة في المدينة .
العــراف
محمد المهدي السقال
انشغل سعادة الوزير برؤية الشمس آخذة في الأفول خلف الواجهة الزجاجية , فلم ينتبه إلى السطر ما قبل قبل الأخير في كلمته العصماء , مع ذلك , انهالت التصفيقات من الزوايا بنظام إيقاعي بديع , سمع أباه يتحدث بسخرية , عن لقاءات المسؤولين مع الشعب في مواسم الاجتماعات تحت قباب قصور البلديات , تُكْترى الأكف كما تُكترى الوجوه, وتبقى دار لقمان على حالها , عين السيد الوزير على طائر يصارع من أجل تثبيت قدميه , وأخرى على السطرين المغفلين , بقيت في نفسه عبارات مدبجة بإحكام , تتعرض بالأرقام لما تحقق في عهده على رأس وزارة الصيد البري, تردد كاتبه الخاص و أمين سره اللغوي كثيرا , قبل أن يجد التعبيرات المناسبة لما قصد إبلاغه بالزور والبهتان , كأن السماء كانت مفتوحة , فاستجابت لرفضه الضمني كتابة ذلك السطر ,
وغاب سعادة الوزير مفكرا فيما ضاع منه , لم تنبهه سوى إيماءة رئيس الديوان , للوقوف بالتحية أمام الجمع , اضطر للاتكاء على يمينه حذر الظهور بحقيقة عجزه , بينما زادت الأيدي في مقارعة بعضها في وجه سعادة الوزير , كانت يداه تحاولان إسناد قامته المتعبة لحافة المكتب العريض , وبينما هو كذلك , إذا برجل يسعى نحوه متسللا بين الصفوف , توقف أمامه ,
و قبل أن يباغثه الحرس الإداري , لفظ من فمه بصقة لزجة , أرست على خده الأيسر , ثم أخذت في التحلل أخدودا إلى ضفاف الأنف المعقوف ,
ارتمى عليه حارسان بلباسهما المدني الأنيق , سُمِع تمزُّق لم تُعرف جهته, حمَلا الرجل لا تلامس أرجلُه الأرض , و همَّا بالاختفاء به عن العيون , لولا تدخل سعادة الوزير ,
حكى لي من حضر , أن سعادته استدرك الحارسين , بعد التمكن من التخلص بالكاد من لزوجة القذيفة ,
عم صمت رهيب لم يعرف الناس له مثيلا ,
كل العيون تسمرت حول شبح السيد الوزير , في انتظار ما سيقوله, ما سيفعله,
قلت لصاحبي : لا تقل لي بأنه صفح عن الرجل على طريقة البابا ,
نعم ,
أُنزل الرجل إلى الأرض بإشارة منه , استقدمه إليه , تردد الرجل وحالة الهلع مازالت متمكنة منه , وكَزه أحد الحارسين أو هما معا, لأن الدفعة أوقعته بين يدي الوزير , تراجع بالكاد قليلا :
لا يلمسه أحد , أنا عفوت عنه ,
عادت التصفيقات مدوية من نفس الأركان , وعاد الناس إلى مقاعدهم بعدما كانوا على وشك الخروج ,
قلت لصاحبي :
لست عرَّافاً , لكني أستطيع تصور الباقي , فقد حدث لغيره من السادة الوزراء ما يندى له الجبين , حين كان يستعد لانتخابات المواسم الفارطة,
هل تقصد أنه تعرض للبصق على وجهه ؟
لا , كان الأمر أهون , تعرض سيادته للقذف بالطماطم الهارية في طريقه إلى " سوق البقر" *, أصيبت ملابسه الأنيقة بوابل منها , دون اختراقها جسده , لكنه ظل ثابتا يصطنع ابتسامة عريضة , فيما بعد , قال لحواريه : حتى الأنبياء تعرضوا لإيذاء العوام من الهوام .
وحتى لا يسألني أكثر عن تتمة حكاية السيد الوزير و ما وقع له من البهدلة في بلاد البوغاز , استدركته بالسؤال "
هل دشن الوزير قبل خطبته مشروعا في الهواء الطلق ؟
نعم ,
هل كانت ساحة القرية مرتعا للأكل والشراب , داخلها مهزوز و خارجها مكنوز؟
نعم ,
وهل كانت كلمة سعادة الوزير محصورة في مناسبة قرب الانتخابات ؟
نعم ,
ولم يتمالك صاحبي نفسه , لينتظر ما أوحت لي به الحادثة ,
كيف عرفت كل ذلك ؟
و أستطيع أيضا التنبؤ بما سيصير ,
سيعود السيد الوزير إلى القرية مترشحا عن جماعة " بني خوين ",
وسيفوز بمقعدين لبر الأمان , قبل تسليم مفاتيح الوزارة لمن يليه ,
وهكذا دواليك ,
أطرق صاحبي مسندا جبهته على رؤوس الأصابع المضطربة , وقال سائلا:
هل عرفت صاحبنا الوزير ؟
أجبته سائلا بدون أدنى تردد :
وهل يخفى القمر ؟
قال :
لا حول ولا قوة إلا بالله , في القرن الواحد والعشرين ؟
محمد المهدي السقال
* " سوق البقر " ساحة عامة في المدينة .
- Commentaires textes : Écrire
الشه 1575;دة
قصة قصيرة
الشهادة
محمد المهدي السقال
و حين عمت الفوضى " ساحة الحمام ", تداخلت أصداء الصياحات المتقطعة , بامتدادات رنين ساعة حائطية ظلت تزين جدار إدارة الجمارك وسط المدينة ,
من الأعلى , تبدو دائرة المعتصمين كومة بشرية هامدة , غير أنك حين تدنيها منكَ لمقاربة التفاصيل , تفاجئك حركة أجساد منبطحة على الأرض , وقد تماسكت فيما بينها برباطات من أسلاك نشر الغسيل الصدئة , حول الأعناق كما حول المعاصم و الأقدام ,
من نظرتي الأولى , لم أستبن نوعية الشباب المعتصم , أقصد الفئة التي يمثلونها , حاولت تمحيص الرؤية في تناثر خرق بيضاء مكتوبة بالأحمر القاني ,
يتعلق الأمر هذه المرة , باعتصام المعطلين المكفوفين , الشغل , الخبز , و أشياء أخرى من مفردات الديموقراطية و حرية التعبير وحقوق الإنسان ..
و أيمن الدائرة , رأيتُ بعض الناس الآخذين في الانسحاب نحو الميناء دون التفات إلى الوراء , يسبقهم ظلهم للالتحاق بآخر مركب ,
قال صاحبي إنهم يمثلون شيئا اسمه الأغلبية الصامتة ,
فعلقت عليه بأنها صناعة وطنية , و على غير عادته , بدا متعاطفا مع المنسحبين , ثم أخذ يكيل الأحزاب أقذع الصفات , لأنها تركت الشعب فريسة للأوهام بالموقف المناهض للسلطة , وحتى لا يفتح علينا باب جهنم , دعوته لمتابعة ما يجري,
- هل انفلت زمام التحكم من يد رجال المخزن بمختلف ألوانهم و مراتبهم , بدت دائرة جلدية تقترب .
- متأهبة لا شك لاستقبال الأوامر بالتدخل مهما كلف من ثمن .
تزينت الجنبات بسيارات المصالح المتعددة الاختصاصات ,
- حضرت كل الألوان التي تتحرك في الشارع .
فهمتُ أنه يقصد الزرقاء والخضراء والحمراء والبيضاء و السوداء ,
- الإسعاف , الإطفاء , الوقاية , المساعدة , الشرطة ,
كلها مدججة عن آخرها , مصفحة الأبواب والنوافذ , قلت في نفسي , بينما عيني على سيارات أخرى ترامت في الحواشي , كنا نعرف أنها في مثل هذه المناسبات , تستقدم سرا من مكاتب الفلاحة والشاي والسكر , لتحشر بين الطرقات , فتقف على النواصي لالتقاط الطيور المفزعة ,
وحدها أسراب الحمام المدجنة , ظلت تتناوب على الرسو فوق السياجات, غافلة عن حقيقة ما يجري , منذ ازديادها , وُضعت أزواجا في ثقب النافورة المعطلة , لتكبر بين حركة الناس وأعناقُها مشرئبة لأيديهم تمدُّها بحبوب مستوردة , قال لي صاحبي يوما , جوابا عن تساؤلي حول سبب عدم تقديم الحبوب الوطنية , بأنه التخوف من عدوى إنفلوانزا الطيور على حياة الحمام الداجن ,
لم ينزعج بعض الحمام سوى لطلقات الرصاص في الهواء , حين أوشك جمع المعتصمين المكفوفين على الاندفاع في اتجاه الحاجز الحديدي من ألوان رجال المخزن , بينما كانت مجموعة منهم تحاول فك الأسلاك التي تشابكت حول أيدي و أعناق الشباب المنبطح أرضا يتمنعون عن تخليصهم مما أوثقوا به أنفسهم إصرارا على التعلق بالموت الجماعي ,
مر شهر على الاعتصام المفتوح في ساحة الحمام , يأتي وسطاء المسؤولين لترويج التسويفات ,
يحملون لرؤسائهم مطالب المكفوفين المعطلين , ثم يعودون بخفي حنين , لا يملكون غير الوعود الكاذبة,
و ألِف الناس من العامة منظر الاعتصام , فصاروا يأتون من كل فج عميق , و بأيديهم ألوان من الزاد , كما كانوا يأتون الحمام بالفتات وحب الزرع وعباد الشمس ,
كثيرون استغربوا صبر السيدة الحكومة على اعتصام المكفوفين المفتوح ,
و قليلون انتبهوا إلى حيلتها في التعاطي مع الحالة ,
فقد تفتقت ذهنية التنسيق بين وزارات الداخلية والسياحة و الثقافة , عن خلق مناخ جديد مادته معاناة أبناء الشعب المحرومين من أبسط شروط الحياة ناهيك عن العيش , يساعد على الترويج بين السياح الأجانب , لبضاعة الديموقراطية الحديثة في هذه البلاد ,
وكانت اللعبة محبوكة بحذر احترافي , تحركت آلات التصوير موجهة بإحكام من زوايا محددة , دون أن يسمح لها بالتقاط الصوت , فقد كانت الشعارات عنيفة و مقيتة , تبلغ الأسماع فتقشعر لها الأبدان ,
أما اللافتات التي كتبت باللون الأحمر , فلم تكن أقل سخرية وتنديدا بالزيف و النفاق والظلم ,
ترتفع الأصوات كعادتها في اتجاه السماء , كبدها ملبد بسحب الصيف في عز الخريف ,
- ربما ستمطر الليلة , لقد مرت خمسة أيام على صلاة الاستسقاء ,
ثم أقسم باليمين المغلظة ,
- لن تسقط و لو قطرة , كنت أعبر للضفة الأخرى من مصلى الهواء الطلق تلك الجمعة , رغم حملات الدعاية بالشيوخ والمقدمين ذلك الصباح, رأيتها شبه فارغة , وحين سألت في المساء عن حجم المشاركين في التوجه إلى الله طلبا للماء , أخبرني من حضر , بسبب مهمته الإدارية في المحافظة , أن التقارير التي رفعت لاستعلامات الأوقاف قبل الداخلية , ربما تكون سببا في العصف بكثير من رؤوس المدينة ,
وبعد شهر من الاعتصام , انتقل المعتصمون إلى تنفيذ المرحلة الثانية من مخططهم ,
ولم تكن مفاجأة بالنسبة للرجال المخزن , فد أبلغوا أمس بما يعتزمه هؤلاء المكفوفون الملاعنة , أخذتهم الحيرة ,
قال قائدهم في مواجهة مثل هذه الاعتصامات التي تكررت في البلد :
- لم نجد مع المبصرين أمام البرلمان من العنت ما نعانيه مع هؤلاء المكفوفين ,
و أخذ في توزيع الأدوار للتعاطي مع الحدث واحتمالاته , غير أنه نبه التابعين لإمرته من القوة الخاصة و الخاصة جدا , إلى ضرورة تحاشي عيون الكاميرات , و الإبداع في إخراج الصورة المطلوبة للتسويق الإعلامي والسياحي , فوجئ حراس الليل والنهار بإقدام الشباب على شرب سوائل النفط و البطاريات أو ما يعرف بالماء القاطع , فارتبكوا ,
و عمت الفوضى ساحة الحمام , حتى بدا واضحا انفلات زمام التحكم في الموقف .
****
محمد المهدي السقال
الشهادة
محمد المهدي السقال
و حين عمت الفوضى " ساحة الحمام ", تداخلت أصداء الصياحات المتقطعة , بامتدادات رنين ساعة حائطية ظلت تزين جدار إدارة الجمارك وسط المدينة ,
من الأعلى , تبدو دائرة المعتصمين كومة بشرية هامدة , غير أنك حين تدنيها منكَ لمقاربة التفاصيل , تفاجئك حركة أجساد منبطحة على الأرض , وقد تماسكت فيما بينها برباطات من أسلاك نشر الغسيل الصدئة , حول الأعناق كما حول المعاصم و الأقدام ,
من نظرتي الأولى , لم أستبن نوعية الشباب المعتصم , أقصد الفئة التي يمثلونها , حاولت تمحيص الرؤية في تناثر خرق بيضاء مكتوبة بالأحمر القاني ,
يتعلق الأمر هذه المرة , باعتصام المعطلين المكفوفين , الشغل , الخبز , و أشياء أخرى من مفردات الديموقراطية و حرية التعبير وحقوق الإنسان ..
و أيمن الدائرة , رأيتُ بعض الناس الآخذين في الانسحاب نحو الميناء دون التفات إلى الوراء , يسبقهم ظلهم للالتحاق بآخر مركب ,
قال صاحبي إنهم يمثلون شيئا اسمه الأغلبية الصامتة ,
فعلقت عليه بأنها صناعة وطنية , و على غير عادته , بدا متعاطفا مع المنسحبين , ثم أخذ يكيل الأحزاب أقذع الصفات , لأنها تركت الشعب فريسة للأوهام بالموقف المناهض للسلطة , وحتى لا يفتح علينا باب جهنم , دعوته لمتابعة ما يجري,
- هل انفلت زمام التحكم من يد رجال المخزن بمختلف ألوانهم و مراتبهم , بدت دائرة جلدية تقترب .
- متأهبة لا شك لاستقبال الأوامر بالتدخل مهما كلف من ثمن .
تزينت الجنبات بسيارات المصالح المتعددة الاختصاصات ,
- حضرت كل الألوان التي تتحرك في الشارع .
فهمتُ أنه يقصد الزرقاء والخضراء والحمراء والبيضاء و السوداء ,
- الإسعاف , الإطفاء , الوقاية , المساعدة , الشرطة ,
كلها مدججة عن آخرها , مصفحة الأبواب والنوافذ , قلت في نفسي , بينما عيني على سيارات أخرى ترامت في الحواشي , كنا نعرف أنها في مثل هذه المناسبات , تستقدم سرا من مكاتب الفلاحة والشاي والسكر , لتحشر بين الطرقات , فتقف على النواصي لالتقاط الطيور المفزعة ,
وحدها أسراب الحمام المدجنة , ظلت تتناوب على الرسو فوق السياجات, غافلة عن حقيقة ما يجري , منذ ازديادها , وُضعت أزواجا في ثقب النافورة المعطلة , لتكبر بين حركة الناس وأعناقُها مشرئبة لأيديهم تمدُّها بحبوب مستوردة , قال لي صاحبي يوما , جوابا عن تساؤلي حول سبب عدم تقديم الحبوب الوطنية , بأنه التخوف من عدوى إنفلوانزا الطيور على حياة الحمام الداجن ,
لم ينزعج بعض الحمام سوى لطلقات الرصاص في الهواء , حين أوشك جمع المعتصمين المكفوفين على الاندفاع في اتجاه الحاجز الحديدي من ألوان رجال المخزن , بينما كانت مجموعة منهم تحاول فك الأسلاك التي تشابكت حول أيدي و أعناق الشباب المنبطح أرضا يتمنعون عن تخليصهم مما أوثقوا به أنفسهم إصرارا على التعلق بالموت الجماعي ,
مر شهر على الاعتصام المفتوح في ساحة الحمام , يأتي وسطاء المسؤولين لترويج التسويفات ,
يحملون لرؤسائهم مطالب المكفوفين المعطلين , ثم يعودون بخفي حنين , لا يملكون غير الوعود الكاذبة,
و ألِف الناس من العامة منظر الاعتصام , فصاروا يأتون من كل فج عميق , و بأيديهم ألوان من الزاد , كما كانوا يأتون الحمام بالفتات وحب الزرع وعباد الشمس ,
كثيرون استغربوا صبر السيدة الحكومة على اعتصام المكفوفين المفتوح ,
و قليلون انتبهوا إلى حيلتها في التعاطي مع الحالة ,
فقد تفتقت ذهنية التنسيق بين وزارات الداخلية والسياحة و الثقافة , عن خلق مناخ جديد مادته معاناة أبناء الشعب المحرومين من أبسط شروط الحياة ناهيك عن العيش , يساعد على الترويج بين السياح الأجانب , لبضاعة الديموقراطية الحديثة في هذه البلاد ,
وكانت اللعبة محبوكة بحذر احترافي , تحركت آلات التصوير موجهة بإحكام من زوايا محددة , دون أن يسمح لها بالتقاط الصوت , فقد كانت الشعارات عنيفة و مقيتة , تبلغ الأسماع فتقشعر لها الأبدان ,
أما اللافتات التي كتبت باللون الأحمر , فلم تكن أقل سخرية وتنديدا بالزيف و النفاق والظلم ,
ترتفع الأصوات كعادتها في اتجاه السماء , كبدها ملبد بسحب الصيف في عز الخريف ,
- ربما ستمطر الليلة , لقد مرت خمسة أيام على صلاة الاستسقاء ,
ثم أقسم باليمين المغلظة ,
- لن تسقط و لو قطرة , كنت أعبر للضفة الأخرى من مصلى الهواء الطلق تلك الجمعة , رغم حملات الدعاية بالشيوخ والمقدمين ذلك الصباح, رأيتها شبه فارغة , وحين سألت في المساء عن حجم المشاركين في التوجه إلى الله طلبا للماء , أخبرني من حضر , بسبب مهمته الإدارية في المحافظة , أن التقارير التي رفعت لاستعلامات الأوقاف قبل الداخلية , ربما تكون سببا في العصف بكثير من رؤوس المدينة ,
وبعد شهر من الاعتصام , انتقل المعتصمون إلى تنفيذ المرحلة الثانية من مخططهم ,
ولم تكن مفاجأة بالنسبة للرجال المخزن , فد أبلغوا أمس بما يعتزمه هؤلاء المكفوفون الملاعنة , أخذتهم الحيرة ,
قال قائدهم في مواجهة مثل هذه الاعتصامات التي تكررت في البلد :
- لم نجد مع المبصرين أمام البرلمان من العنت ما نعانيه مع هؤلاء المكفوفين ,
و أخذ في توزيع الأدوار للتعاطي مع الحدث واحتمالاته , غير أنه نبه التابعين لإمرته من القوة الخاصة و الخاصة جدا , إلى ضرورة تحاشي عيون الكاميرات , و الإبداع في إخراج الصورة المطلوبة للتسويق الإعلامي والسياحي , فوجئ حراس الليل والنهار بإقدام الشباب على شرب سوائل النفط و البطاريات أو ما يعرف بالماء القاطع , فارتبكوا ,
و عمت الفوضى ساحة الحمام , حتى بدا واضحا انفلات زمام التحكم في الموقف .
****
محمد المهدي السقال
- Commentaires textes : Écrire
سورة " الكا 1601;رو& #1606; "
سورة " الكافرون "
حملتُ أخي بين ذراعيَّ هاتين , أراوده عسى النومَ يأخذهُ إلى حين , نقْرُ المطر فوق السقف القصديري يعاندني , حضنتُه أحاول صدَّ الصوت عنه , صدري أحسه بارداً على خدِّه ,لا يستقر على حال , أغمضَ جفنيه على عينين نديتين , فأحسست بنشوة النجاح في تلهيته , تطأ قدماها عتبة " البَرَّاكَةْ " , يسبقها السؤال المألوف : هل بكى كثيرا ؟
لا تنفرج أساريرُها إلا حين تجده مُخلدا لِنومة عميقة ,
تدخل إلى المطبخ , تُفرغ ما حملته ظاهرا ومستترا من بيت " الحاجة القاسمية " ,
ليلتي السبت والأحد , يكون الزاد وفيرا , لا تغادر بيت مُشَغِّلتها , إلا بعد انصراف الضيوف الأسبوعيين , تأتي منهكة , لكن البسمة لا تفارق محياها فرحة بما عادت به من بقايا عشائهم ,
استفاق من جديد , اللعنة على الكلب " سيسو " , ينبح كعادته كلما سمع الأطفال يتصايحون , سيخرج إليهم " با حميدو لمبراص ", ينزعج من نباح الكلاب في الصيف كما في الشتاء ,
ذهب جهدي سدى , سيعود إلى صراخه الحاد والمزعج , ولن أعود ثانية للبحث له عن كسرة خبز , التهم النتف المتبقية من الصباح ,
أوصتني أمي بالتحايل عليه إلى حين عودتها , وهي تغريني بنصيب من الكعكة التي ستعجنها اليوم للحاجة " القاسمية ",
رفع أنامله يفرك ما تقع عليه , لم يصرخ , رمقته يحدق في وجهي , مد أنامله المظفرة إلى وجهي , تركته يفعل , يكاد يغرس ظفرا غضًّا في أسفل خدِّي الأيسر , لم أبْدِ أدنى محاولة للتخلص منه ,
ألقى بعينيه المتعبتين على صدري , بدا عليه التعب ,
لعلّه سينام هذه المرة ,
خارج " البراكة " , مازالت تتعالى صيحات الأطفال ,
لن أشاركهم اليوم لعبة "حجيرة ف حفيرة " , سيرتاحون مني , كان صديقي - الذي سيصبح فيما بعد كاتبا خاصا في ديوان وزير الصيد البري - أكثر المتوجسين من حضوري , أغلبه , فأحكم عليه بالرقص على رجل واحدة , كان يضطر للتنفيذ رغم كسوفه أمام الصغيرات ,
ليست المرة الأولى التي سأتولى فيها حضن أخي في غياب الوالدة , فقد دأبت على التغيب عن المدرسة يوم كل سبت ,
منذ أكثر من شهرين و أنا أقوم بهذا الدور ,
غير السبت والأحد , تقوم أُخَيَّتي بخدمة" الحاجة " , تحت غطاء البقاء مع الرضيع في غيابها ,
لكنها لا موظفة في إدارة , ولا مستخدمة في شركة ’؟
أين تذهب بعد الزوال ؟ تاركة خلفها بين يدي أختي , ما تتركه أمي بين يديّ ,
كبر معي السؤال , لكنه تلاشى بعد ارتحال " الحاجة" عن المدينة ,
هل ظلت أمي تتذكرها ؟ لا أظن , لكني أذكرها , كلما وقعت عيني على امرأة في المسلسلات المصرية , من طينة النساء إيَّاهن ,
خبرت كيفية تلهية أخي عن حاجته إلى قطعة خبز , فشجع ذلك على توليتي أمره ,
كم كنت أشعر بالاغتباط , لن أرى وجه المعلم الأسود , يجحظ عينيه فيبيض وجهه في عيني , كلما اعتذرت له عن عدم حفظي , بسبب انشغالي بأخي في غيبة أمي ,
أمس , اختلطت علي سور " الكافرون " , فكان يصفعني عند كل غلطة مرعدا مزبدا :
إلا " القرآن " ,
كان يحيل على تهاوني المتواصل في الاستظهار , سمعت يقول لإحدى المعلمات , بأني ذكي جدا في المحادثة والحساب, ولولا بلادتي في الحفظ , لكنت من الأوائل , بل الأول ,
بيني وبين نفسي , كنت أحب آياتها , أرددها في وحدتي عن ظهر قلب , بل كنت أتحمس في تجويد حروفها : " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا انتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين "
غدا سوف يصفعني أيضا , لم أتمكن من إتقان السورة بعد , ما أن أقف أمامه , حتى ينسى كل شيء ,
استسلم للنوم , اتجهت به إلى مكانه المخصوص يمين فراش أمي , أضعه , تطفو رائحة أبي عائدا منهوك القوى , يلقي بجسده القصبي , فيسمع له تأوه وكلمات يلفها نبر حزين , قبل أن يمسك بالمذياع الصغير بحجم كفه المعروقة ,
يلصقه بأذنه اليسرى , وسبابته تقلب الموجات المتعبة ,
أتذكر أبي الذي رحل مبكرا ,
ما أن أدركت المكان الذي يأوي إليه كلما عاد من العمل , يلقي بجسده حتى اختطفته المنية , قيل إنه مات بالسل المزمن , لا يُعرَف شيء في حيِّنا لم يدخنه أبي , وقيل إنه مات بالقلب الذي تباطأت دقاته , حتى لم تعد أمي تسمع نبضه ,
نحافته مع طول في القامة , فتحت مخيلة الصبيان في الحي , ليلقبوه باللقلاق , أو " بَلاَّرجْ " كما نسمِّيه , يحني رأسه لاختراق الباب من غير مزلاج , فيتقوس ظهره إلى الخلف ,
لعل اللقب جاءه في الأصل من الرداء الذي الأسود الذي كان يحمله على كتفيه باستمرار , لم يكن الإنسان بحاجة إلى كبير تفكير , ليعرف أن أبي كان "حمالا ", تساعد على ذلك , بقايا ذرات شهباء تلتصق كالجذام بجنباته ,
في إحدى مناوشات الجارة " راضية " مع أمي , لم تتوان عن تعييرها بحمل أبي للدقيق إلى أسياده ,
بينما يبيت بيته على الطوى ,
كان خلف الباب ,
وصلت إلى أذنه جملة : الموت أحسن له ,
لكن أبي لم يمت بعد ذلك , باختيار الانسحاب من هذه الحياة البئيسة ,
مضت على تلك المناوشة التي ظلت تكرر , أكثر من خمس سنوات, قبل أن يلفظ أنفاسه بعد معانة شديدة مع السل المقيت ,
لعله يستيقظ بعد حين , اعتدنا على دخوله تلك الغيبوبة , حتى أن أختي لم تعد تسارع للنداء على الوالدة في بيت الحاجة" القاسمية ", أكثر من مرة , عادت مسرعة تتعثر بين نتوءات الحي القصديري , أذكر ابتسامتها الضيقة في وجهه بعد الحالة :
أنت كالقط بسبعة أرواح ..
هل كان يسمعها ؟
لعله سيستيقظ , بماذا سألقم فمه هذه المرة ؟ لم يتبق فتات ألهيه به عن غيبة أمي , نظرت إليه وعيني على سورة " الكافرون " .
محمد المهدي السقال
المغرب
حملتُ أخي بين ذراعيَّ هاتين , أراوده عسى النومَ يأخذهُ إلى حين , نقْرُ المطر فوق السقف القصديري يعاندني , حضنتُه أحاول صدَّ الصوت عنه , صدري أحسه بارداً على خدِّه ,لا يستقر على حال , أغمضَ جفنيه على عينين نديتين , فأحسست بنشوة النجاح في تلهيته , تطأ قدماها عتبة " البَرَّاكَةْ " , يسبقها السؤال المألوف : هل بكى كثيرا ؟
لا تنفرج أساريرُها إلا حين تجده مُخلدا لِنومة عميقة ,
تدخل إلى المطبخ , تُفرغ ما حملته ظاهرا ومستترا من بيت " الحاجة القاسمية " ,
ليلتي السبت والأحد , يكون الزاد وفيرا , لا تغادر بيت مُشَغِّلتها , إلا بعد انصراف الضيوف الأسبوعيين , تأتي منهكة , لكن البسمة لا تفارق محياها فرحة بما عادت به من بقايا عشائهم ,
استفاق من جديد , اللعنة على الكلب " سيسو " , ينبح كعادته كلما سمع الأطفال يتصايحون , سيخرج إليهم " با حميدو لمبراص ", ينزعج من نباح الكلاب في الصيف كما في الشتاء ,
ذهب جهدي سدى , سيعود إلى صراخه الحاد والمزعج , ولن أعود ثانية للبحث له عن كسرة خبز , التهم النتف المتبقية من الصباح ,
أوصتني أمي بالتحايل عليه إلى حين عودتها , وهي تغريني بنصيب من الكعكة التي ستعجنها اليوم للحاجة " القاسمية ",
رفع أنامله يفرك ما تقع عليه , لم يصرخ , رمقته يحدق في وجهي , مد أنامله المظفرة إلى وجهي , تركته يفعل , يكاد يغرس ظفرا غضًّا في أسفل خدِّي الأيسر , لم أبْدِ أدنى محاولة للتخلص منه ,
ألقى بعينيه المتعبتين على صدري , بدا عليه التعب ,
لعلّه سينام هذه المرة ,
خارج " البراكة " , مازالت تتعالى صيحات الأطفال ,
لن أشاركهم اليوم لعبة "حجيرة ف حفيرة " , سيرتاحون مني , كان صديقي - الذي سيصبح فيما بعد كاتبا خاصا في ديوان وزير الصيد البري - أكثر المتوجسين من حضوري , أغلبه , فأحكم عليه بالرقص على رجل واحدة , كان يضطر للتنفيذ رغم كسوفه أمام الصغيرات ,
ليست المرة الأولى التي سأتولى فيها حضن أخي في غياب الوالدة , فقد دأبت على التغيب عن المدرسة يوم كل سبت ,
منذ أكثر من شهرين و أنا أقوم بهذا الدور ,
غير السبت والأحد , تقوم أُخَيَّتي بخدمة" الحاجة " , تحت غطاء البقاء مع الرضيع في غيابها ,
لكنها لا موظفة في إدارة , ولا مستخدمة في شركة ’؟
أين تذهب بعد الزوال ؟ تاركة خلفها بين يدي أختي , ما تتركه أمي بين يديّ ,
كبر معي السؤال , لكنه تلاشى بعد ارتحال " الحاجة" عن المدينة ,
هل ظلت أمي تتذكرها ؟ لا أظن , لكني أذكرها , كلما وقعت عيني على امرأة في المسلسلات المصرية , من طينة النساء إيَّاهن ,
خبرت كيفية تلهية أخي عن حاجته إلى قطعة خبز , فشجع ذلك على توليتي أمره ,
كم كنت أشعر بالاغتباط , لن أرى وجه المعلم الأسود , يجحظ عينيه فيبيض وجهه في عيني , كلما اعتذرت له عن عدم حفظي , بسبب انشغالي بأخي في غيبة أمي ,
أمس , اختلطت علي سور " الكافرون " , فكان يصفعني عند كل غلطة مرعدا مزبدا :
إلا " القرآن " ,
كان يحيل على تهاوني المتواصل في الاستظهار , سمعت يقول لإحدى المعلمات , بأني ذكي جدا في المحادثة والحساب, ولولا بلادتي في الحفظ , لكنت من الأوائل , بل الأول ,
بيني وبين نفسي , كنت أحب آياتها , أرددها في وحدتي عن ظهر قلب , بل كنت أتحمس في تجويد حروفها : " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا انتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين "
غدا سوف يصفعني أيضا , لم أتمكن من إتقان السورة بعد , ما أن أقف أمامه , حتى ينسى كل شيء ,
استسلم للنوم , اتجهت به إلى مكانه المخصوص يمين فراش أمي , أضعه , تطفو رائحة أبي عائدا منهوك القوى , يلقي بجسده القصبي , فيسمع له تأوه وكلمات يلفها نبر حزين , قبل أن يمسك بالمذياع الصغير بحجم كفه المعروقة ,
يلصقه بأذنه اليسرى , وسبابته تقلب الموجات المتعبة ,
أتذكر أبي الذي رحل مبكرا ,
ما أن أدركت المكان الذي يأوي إليه كلما عاد من العمل , يلقي بجسده حتى اختطفته المنية , قيل إنه مات بالسل المزمن , لا يُعرَف شيء في حيِّنا لم يدخنه أبي , وقيل إنه مات بالقلب الذي تباطأت دقاته , حتى لم تعد أمي تسمع نبضه ,
نحافته مع طول في القامة , فتحت مخيلة الصبيان في الحي , ليلقبوه باللقلاق , أو " بَلاَّرجْ " كما نسمِّيه , يحني رأسه لاختراق الباب من غير مزلاج , فيتقوس ظهره إلى الخلف ,
لعل اللقب جاءه في الأصل من الرداء الذي الأسود الذي كان يحمله على كتفيه باستمرار , لم يكن الإنسان بحاجة إلى كبير تفكير , ليعرف أن أبي كان "حمالا ", تساعد على ذلك , بقايا ذرات شهباء تلتصق كالجذام بجنباته ,
في إحدى مناوشات الجارة " راضية " مع أمي , لم تتوان عن تعييرها بحمل أبي للدقيق إلى أسياده ,
بينما يبيت بيته على الطوى ,
كان خلف الباب ,
وصلت إلى أذنه جملة : الموت أحسن له ,
لكن أبي لم يمت بعد ذلك , باختيار الانسحاب من هذه الحياة البئيسة ,
مضت على تلك المناوشة التي ظلت تكرر , أكثر من خمس سنوات, قبل أن يلفظ أنفاسه بعد معانة شديدة مع السل المقيت ,
لعله يستيقظ بعد حين , اعتدنا على دخوله تلك الغيبوبة , حتى أن أختي لم تعد تسارع للنداء على الوالدة في بيت الحاجة" القاسمية ", أكثر من مرة , عادت مسرعة تتعثر بين نتوءات الحي القصديري , أذكر ابتسامتها الضيقة في وجهه بعد الحالة :
أنت كالقط بسبعة أرواح ..
هل كان يسمعها ؟
لعله سيستيقظ , بماذا سألقم فمه هذه المرة ؟ لم يتبق فتات ألهيه به عن غيبة أمي , نظرت إليه وعيني على سورة " الكافرون " .
محمد المهدي السقال
المغرب
- Commentaires textes : Écrire
اللـ 1593;ـب& #1600;ة
اللـعـبـة
كيف تصرح لزوجها بما في هذا المحامي من " الدغول " ؟
لمحت له في آخر زيارة , لكنه تجاوزها بابتسامة عارضة
تمالكت نفسها كي لا تجهش أمامه , ممزقة بين الرغبة والرهبة في البوح ,
ثم تحولت الأنظار إلى المنصة ,
اعتدل القاضي الأوسط مترنِّحاً كالمتضايق من شيء أسفله
بينما ظل المحامي يوزع بسخاء نظراته على كل من الزوجة والمتهم ,
بدا السيد القاضي كأنه يحيض و يبيض ,
بأدب كبير يخاطب المتهم , وبأدب أكبر يستمع للمحامي ,
تتنامى غمغمات الحضور مخترقة جدران القاعة , دون تدخله كعادته بالتهديد والوعيد ,
بعد شهرين من مناقشة الشكل والموضوع داخل وخارج المحكمة ,
سيسدل الستار عن محاكمة القرن ,
ومن البراءة إلى الانتخابات ,
أقنعها بأن الكبار وراء الستار لن يسكتوا , فاقتنعت بأنه لن يغرق وحده هذه المرة ,
.. وبناء عليه , فقد حكمت المحكمة الموقرة بالحبس سبع سنوات نافذة وغرامة سبعة ملايين نقدا , مع مصادرة حيازات المدعو" بوشواري" الفلاحية , مما ثبت تملكه بعد استرجاع الأراضي من يد المعمرين..
صفق الجمهور ,
بينما كانت الكاميرا الخفية تنسحب في غفلة من العيون ,
وحده كان يعلم أنها كانت هناك ,
قال آخرون : هذه بشارة الديموقراطية .
******
محمد المهدي السقال
- Commentaires textes : Écrire
أربـ 1593; نـسا 1569;
أربـــع نــســـاء
حضنتُ البُنَيَّة كما يحضن مُودِّعُُ أمَّهُ في لحظة فراقٍ غير مأمون العودة ,
لم تكن أكثر من قطعة خشب بين ذراعيَّ , هل بدأت تكبر !؟ تواصل التحديق في السقف , لعل العناكب العالقة تتحرك , نظرتُ إلى عينيها مُتَجَرِّعاً لامبالاة طفولة بريئة , وحدها في البيت لا تعرف وجهة سفري إلى بلاد بعيدة , تحاشينا التكتم , لا يبدو عليها اهتمام بالموقف , لمحتُ أمي تراود نفسها للتظاهر بالصبر, بينما عينُ زوجتي على يديَّ تمسكان بانفعال ظهر الطفلة إلى صدري ,
في سن الثامنة , تأخذ ملامح الأنثى في التبلور , رغم انكفاء وجهها بحضن كتفيَّ , كنتُ أتلمَّسُ تفاصيل استدارة زرقة البؤبؤ , بشرتها الناصعة لا تشبهها غير صورة "مريم" على الحائط منذ أربعين عاما , وعيتُ في سن العاشرة بوجود امرأة في البرواز , سموها مريم , تتوسط شمساً ذائبة الجنبات بأشعة أرجوانية , ثم عرفت أنها العذراء , ولم تكن في ذهني أية فكرة عن عذريتها الجنسية , أما " خديجة " , فقد كانت ساعتها وفي حدود علمي عذراء ,
هل سأجدها كذلك بعد غيبة خمس سنوات ,
ظلت أمِّي صامدة تقرأ في نظراتي حُرقة الافتراق , بينما ظلَّتْ نظرات زوجتي حادَّة تلتصق بابتسامة عريضة انفرجت لها أسارير الصغيرة ,
تطلعتْ إلى خدِّي تودُّ أن تقَبِّلُه , شفتاها الدافئتان , لم تلْحقا غير ذقني المُشوَّك ببداية نبْتِ شُعَـيْرات عمرها أقل من أسبوع ,
منذ أُبْلِغْتُ بموعد الرحيل إلى منفاي الاختياري , لم أفكِّر في تمرير موسى على وجهي ,
طالتِ الانتظارات , ولولا هذا العقد الذي كلَّف زوج أختي خمسة ملايين , لكنت إلى الآن أرشف مرارة الغد مُعَـطَّلاً بقوة القانون , ينُصُّ قرار عَزْلي عن الوظيفة , بعدم السماح لي بامتهان أي عمل في المؤسسات الحكومية , كم كنت أضحك من نفسي , حين أتذكَّر أنني لم أتقن عملاً يَدوياً واحداً ,لا أعرف كيف أمسكُ حتَّى بمطرقة ,
ظلت حرفتي الوحيدة الكتابة في جريدة الحزب , حتى كانت تلك المقالة التي قصمت ظهر البعير :
لا غالب إلا عصا الوزير .
هـلل الجميع لاجترائي , لكنهم لم يلبثوا أن نسوا اسمي و وجودي , تلك حكاية أخرى ,
تحركتْ " خديجة " تحاول الوقوف على قدميها , علا وجهُ زوجتي انشراحُُ بعد ضيق , وخجلاً من حضرة أمي, لم أضُمَّها إلى صدري كما كنتُ أفعل في خلوة الوصال , شددتُ على يدها بحرارة , أعلم قسوة انتظارها خمس سنوات إن بقيت في العمر بقية , كنت أتسَمَّعُ شكواها من عُقْم أحَديْنا , رغم تأكيد الطبيبة بأن المشكل ليس منها , لم تُشعِرني بأدنى حَرج , أكثر من مرة , تواعدنا على أن أعرض نفسي على الطبيب , لإجراء تحليلات السائل المنوي , لكن كل مرة , كان يطرأ عارض قاهر يحول دون ذلك , لحسن الحظ أنها كانت تعي الظروف وتتفهم تخلُّفي عن ذلك ,
انسحبت خديجة إلى المطبخ , ارتمتْ أمي على صدري فانحنيتُ لأقبلها , بينما كانت زوجتي تسرح خلف خطوات البُنَيَّة , أحسستُ كأنها القبلات الأخيرة, لم تكن نظراتُها إليها كتلك التي رمَتْها بها عينُ الرِّضا , حين جاءتْ بها أمُّها تعرضها علينا , لِسَتْر فِعْلتها خوفاً من العار , كما قالت .
* * *
**
محمد المهدي السقال / المغرب
حضنتُ البُنَيَّة كما يحضن مُودِّعُُ أمَّهُ في لحظة فراقٍ غير مأمون العودة ,
لم تكن أكثر من قطعة خشب بين ذراعيَّ , هل بدأت تكبر !؟ تواصل التحديق في السقف , لعل العناكب العالقة تتحرك , نظرتُ إلى عينيها مُتَجَرِّعاً لامبالاة طفولة بريئة , وحدها في البيت لا تعرف وجهة سفري إلى بلاد بعيدة , تحاشينا التكتم , لا يبدو عليها اهتمام بالموقف , لمحتُ أمي تراود نفسها للتظاهر بالصبر, بينما عينُ زوجتي على يديَّ تمسكان بانفعال ظهر الطفلة إلى صدري ,
في سن الثامنة , تأخذ ملامح الأنثى في التبلور , رغم انكفاء وجهها بحضن كتفيَّ , كنتُ أتلمَّسُ تفاصيل استدارة زرقة البؤبؤ , بشرتها الناصعة لا تشبهها غير صورة "مريم" على الحائط منذ أربعين عاما , وعيتُ في سن العاشرة بوجود امرأة في البرواز , سموها مريم , تتوسط شمساً ذائبة الجنبات بأشعة أرجوانية , ثم عرفت أنها العذراء , ولم تكن في ذهني أية فكرة عن عذريتها الجنسية , أما " خديجة " , فقد كانت ساعتها وفي حدود علمي عذراء ,
هل سأجدها كذلك بعد غيبة خمس سنوات ,
ظلت أمِّي صامدة تقرأ في نظراتي حُرقة الافتراق , بينما ظلَّتْ نظرات زوجتي حادَّة تلتصق بابتسامة عريضة انفرجت لها أسارير الصغيرة ,
تطلعتْ إلى خدِّي تودُّ أن تقَبِّلُه , شفتاها الدافئتان , لم تلْحقا غير ذقني المُشوَّك ببداية نبْتِ شُعَـيْرات عمرها أقل من أسبوع ,
منذ أُبْلِغْتُ بموعد الرحيل إلى منفاي الاختياري , لم أفكِّر في تمرير موسى على وجهي ,
طالتِ الانتظارات , ولولا هذا العقد الذي كلَّف زوج أختي خمسة ملايين , لكنت إلى الآن أرشف مرارة الغد مُعَـطَّلاً بقوة القانون , ينُصُّ قرار عَزْلي عن الوظيفة , بعدم السماح لي بامتهان أي عمل في المؤسسات الحكومية , كم كنت أضحك من نفسي , حين أتذكَّر أنني لم أتقن عملاً يَدوياً واحداً ,لا أعرف كيف أمسكُ حتَّى بمطرقة ,
ظلت حرفتي الوحيدة الكتابة في جريدة الحزب , حتى كانت تلك المقالة التي قصمت ظهر البعير :
لا غالب إلا عصا الوزير .
هـلل الجميع لاجترائي , لكنهم لم يلبثوا أن نسوا اسمي و وجودي , تلك حكاية أخرى ,
تحركتْ " خديجة " تحاول الوقوف على قدميها , علا وجهُ زوجتي انشراحُُ بعد ضيق , وخجلاً من حضرة أمي, لم أضُمَّها إلى صدري كما كنتُ أفعل في خلوة الوصال , شددتُ على يدها بحرارة , أعلم قسوة انتظارها خمس سنوات إن بقيت في العمر بقية , كنت أتسَمَّعُ شكواها من عُقْم أحَديْنا , رغم تأكيد الطبيبة بأن المشكل ليس منها , لم تُشعِرني بأدنى حَرج , أكثر من مرة , تواعدنا على أن أعرض نفسي على الطبيب , لإجراء تحليلات السائل المنوي , لكن كل مرة , كان يطرأ عارض قاهر يحول دون ذلك , لحسن الحظ أنها كانت تعي الظروف وتتفهم تخلُّفي عن ذلك ,
انسحبت خديجة إلى المطبخ , ارتمتْ أمي على صدري فانحنيتُ لأقبلها , بينما كانت زوجتي تسرح خلف خطوات البُنَيَّة , أحسستُ كأنها القبلات الأخيرة, لم تكن نظراتُها إليها كتلك التي رمَتْها بها عينُ الرِّضا , حين جاءتْ بها أمُّها تعرضها علينا , لِسَتْر فِعْلتها خوفاً من العار , كما قالت .
* * *
**
محمد المهدي السقال / المغرب
- Commentaires textes : Écrire